شاركت هذا الاسبوع في مؤتمر عن الفقر، كأن ليس عند الانسان العربي من أسباب النكد ما يكفي ويزيد. جاءت مشاركتي بصفتي عضواً في المجلس الاستشاري للبنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا مينا. وتعلمت ان الفقر في منطقتنا موجود، وانه لم ينقص خلال السنوات العشر الماضية، وان المستقبل اسوأ. واستشهد الخبراء المشاركون، وأنا في طليعتهم على اعتبار ان خبرتي في الفقر لا تضاهى، بتقارير من الاممالمتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والانماء، كلها أكد انه لا يمكن البحث في العولمة من دون البحث في الفقر، وباختصار فثمانون في المئة من سكان العالم يحصلون على 20 في المئة من الدخل العالمي، والفقر خطر على أمن الدول الثرية، والعولمة زادت الفقر حول العالم. وقرأت في تقرير آخر ان العولمة زادت الفرص للفقراء، إلا انها زادت خطر اتساع الهوة بين الاثرياء والفقراء. الأرقام عن الشرق الأوسط وشمال افريقيا ليست دقيقة، وخبراء البنك الدولي اعتمدوا على الارقام المتوافرة من ست دول فقط، وقارنوها بما يعرفون عن الدول الأخرى، ثم عمموا النتائج على دول "مينا" كلها، وهكذا فقد سمعت ان حساب الفقر على اساس دولار واحد في اليوم للانسان الواحد، يظهر ان نسبة فقراء "مينا" هي 2.1 في المئة أو ستة ملايين من السكان، وهي نسبة معقولة اذا قورنت بافريقيا جنوب الصحراء حيث الفقر يصيب 48 في المئة من السكان، أو 302 مليون نسمة، وبجنوب آسيا حيث النسبة 40 في المئة، أو 522 مليون نسمة. غير ان بلدان "مينا" تحسب الفقر على اساس دولارين في اليوم للشخص الواحد، وهنا ترتفع نسبة الفقر الى 29.9 في المئة، أو 85.4 مليون نسمة. وتصبح النسبة 3 في المئة من مجموع فقراء العالم، بعد ان كانت نصف واحد في المئة، على اساس دولار في اليوم للفرد. مع وجود جنوب آسيا وافريقيا جنوب الصحراء تبدو أرقام الفقر في بلدان "مينا" معقولة، غير ان اسوأ أرقام قرأتها عن منطقتنا تناولت مواضيع غير الفقر، فالفرق بين تعليم الذكور والإناث هو الاكبر في العالم، ويبلغ 25 في المئة، في حين انه في اميركا الجنوبية مثلاً لا يتجاوز ثلاثة في المئة، وتوافر المعلومات للسكان هو سبعة في المئة في "مينا" مع انه في افريقيا جنوب الصحراء يبلغ 21 في المئة. وفي حين ان رقماً أوردته هو 29.9 في المئة للفقر في منطقتنا على حساب دولارين في اليوم للفرد ليس سيئاً، وهناك اسوأ، الا ان ما يقلق فيه ان نسبة الفقر في منطقتنا كانت 30 في المئة سنة 1987، وهبطت الى 24.8 في المئة سنة 1990 لتعود الى 29.9 في المئة سنة 1998، وهي آخر سنة تتوافر احصاءات عنها. لست متفائلاً بأن النسبة هذه ستقل في السنوات القليلة القادمة، مع ان الخبراء في المؤتمر بدوا أكثر تفاؤلاً مني. وباختصار فقد جمعت من اقتراحات الخبراء لمساعدة الفقراء ثلاثة هي: الفرصة والأمن والتمكين. والفكرتان الأوليان غير جدليتين، فالفرصة تعني اصلاح وضع السوق لتحقيق نمو تكون للفقراء حصة فيه، والأمن يعني حماية الفقراء من الاخطار مثل الأزمات الاقتصادية والكوارث الطبيعية. غير انني وجدت التمكين، وهي ترجمتي للكلمة الانكليزية EMPOWERMENT، أمراً صعب المنال، فالمقصود ان يعطى الفقراء دوراً في جعل المؤسسات تعمل لفائدتهم فيجري تركيز على الأولويات الاجتماعية، وتوضع أنظمة قضائية تهدف الى المساواة امام القانون، مع قدرة الفقراء على استعمال القضاء، وكبح الفساد والمضايقة الادارية، واللامركزية مع مشاركة عريضة. وما سبق رومانسية جميلة في رأيي، وقلت في المؤتمر ان الفقراء فقراء لأنهم غير متعلمين، ومن دون تدريب، وفيهم نسبة كبيرة يقل الذكاء فيها عن المعدل العام، فكيف ينتظر منهم ان يتمكنوا من ادارة أمر نفسهم في بلاد غير ديموقراطية لا تملك شعوبها من أمر نفسها كثيراً. وعارضني اكثر الخبراء وأصروا على ان الفقراء قادرون على النهوض اذا توافرت لهم الفرصة، وقدم بعضهم من اصحاب الخبرة الميدانية أمثلة على فقراء استطاعوا الخروج من دوامة الفقر عندما اعطوا اصغر الفرص الممكنة. لست من العناد ان أعارض الخبراء، وبعضهم من مستوى عالمي، فأبقى مع الاحباط الذي أصابني به موضوع الفقر، مع رجاء ألا اكون أصبت القارئ بعدواه. في العقد الماضي زادت ثروة العالم ترليون دولار، ليس عندي مقدار حصتنا منها، ولكن عندي ان الفقر لم ينقص في منطقتنا، ولا أراه سينقص قريباً. وكنت أفكر في المسؤول عن هذا الوضع عندما جبهني رقم آخر هو ان 20 في المئة من الناتج القومي في "مينا" تبتلعه النفقات الحكومية، بما فيها العسكر، وهي نسبة تزيد ضعفين عن أقرب نسبة مماثلة من أي منطقة اخرى في العالم. وقال خبراء ان الدول العربية كافة تعاني من تضخم البيروقراطية، وانه لو خفض موظفو الدولة بنسبة النصف لاستطاع الباقون القيام بالمهمة، من دون تعطيل يذكر في عمل الدولة. غير ان خبراء آخرين قالوا ان تضخم البيروقراطية يفيد في مكافحة الفقر، فبعض العاملين للدولة لا يمكن ان يجد عملاً آخر. بل ان بعض الخبراء قال ان الفساد مطلوب لأن موظفين كثيرين يتقاضون مرتبات متدنية جداً، ربما لا تكفي للطعام وحده أو للباس وحده، ناهيك عن ايجار البيت والتعليم والطبابة وما الى ذلك، وهم بالتالي مضطرون الى تلقي رشوة، والراشي يحسب هذه كجزء من نفقات عمله. وكنت أعتقد ان العولمة ستنشر الثراء، إلا انني قضيت يومين مع عولمة الفقر. فأكمل بعد كلام الجد عن الموضوع اليوم بكلام الهذر عنه غداً.