في الرواية الاسرائيلية الشائعة يتقدم الفلسطينيون بصفتهم ختياراً وصغاراً. الختيار، وهو ياسر عرفات بحسب لقبه المعروف، يُصدر الأوامر بالشَغََب فيلبّي الصغار وينزلون الى الشارع. وبين الختيار والصغار لا توجد اعمار وسيطة. فالآباء منسحبون او ممحيّون، والامهات مجرد كائنات تنفعل بالحدث. فهن يتلقّين جثث أبنائهن وينُحن عليها وينتحبن. وحدهم الختيار والصغار مَن يتناسل إذن، فيتسلّم عرفات الراية من الحاج أمين، ويستأنف الأطفال ما كان ابتدأه اطفال الانتفاضة الأولى التي بكّرت في حجب الأب واخضاعه. والرواية هذه تقوم على شطب المجتمع، اي كل الذين واللواتي يعملون ويسعون وينجبون ويربّون. فهم محكومون برأي الماضي ممثلاً بالختيار، والذي يضعه موضع التنفيذ صغارٌ في سن المراهقة أو قُبيلها. غير ان الصغير، او الطفل، يتقدم في الرواية الاسرائيلية منزوعاً من البراءة التي الصقها بالاطفال أدب ساذج كثير. فهي تستعير لهم، عملاً بأدب أكثر تعقيداً وفي الوقت نفسه أسوأ نيّةً، مزايا شيطانيةً يقال انها تختبىء وراء البراءة. ألم يكتب انطون شمّاس، بهذا المعنى، ان الطفل الفلسطيني لا مكان له لدى الاسرائيليين الذين يقولون: "فتى في العاشرة"! الا ان الوهم الذي يسكن الرواية هذه لا يحول دون اشتقاق بعض عناصرها من وقائع مضطربة ومشوّشة، يكون المجتمع خلالها على درجة بعيدة من التعطيل. وكيف لا يكون التعطيل فيما زمن الانتاج والاعالة، اي زمن الاعمار الوسيطة، مُقيّد بالاحتلال ومشروط بشروطه؟ لكنْ استناداً الى هذه الصورة وما فيها من فرض وصناعة، يُعمل التنميط فأسه في البشر: فالبيئات الفقيرة والكثيرة الانجاب هي، تبعاً لصياغة كولونيالية قديمة، بيئات لا تعبأ بعدد الموتى الذين تقدّمهم، وليس لديها اي اكتراث بالاطفال واي احتفال بطفولة لا تجد تتويجها وتشريفها الا ب... الشهادة. غير ان البيئات المذكورة مُصابة ايضاً، بحسب الصياغة اياها، بداء آخر هو الامتثال للتقليد كما يحرسه المسنّون، وفي الحالة هذه: الختيار... الذي ما ان يومىء حتى تغدو ايماءته أمراً مُلزماً. وقد سبق ان وُصفت الثورة الايرانية بأنها ثورة الجد والحفيد، او الختيار الكالح والصغار ممن تواطأوا على قتل الأب واستبعاد الدور الوسيط. وكانت الثمرة الاولى لهذه الثورة وتحالفها عملاً، كاحتلال السفارة الاميركية، يُخلّ بكل الانصبة والمعايير... اذ حين يتحالف الشيخ والطفل من دون جسر بينهما، لا ينشأ سوى الالتباس والعدم وامتناع الضبط والضوابط. انه، اذن، حلف الولادة وجوارها الصغار والموت ومحيطه الختيار ضداً على الحياة. بيد ان رحيل الكهل في إيران لم يؤثّر في الكهولة الحاكمة. فحين كبر الصغار وعقلوا عجزوا عن احداث التغيير وانفاذ التجديد، على ما تشي به تجربة خاتمي. اما الذين اعتذروا عما فعلوه، وهم صغار، باحتلالهم السفارة، فيعجزون اليوم عن ردع جيل آخر من الصغار عن عمل مشابه. وحتى اللحظة لا تزال السينما الايرانية حين تحرص على عدم اغضاب النظام الكهل، تختبىء وراء الطفل حاجبةً القضايا الاساسية التي هي شؤون الاعمار الوسيطة، او مُتحايلةً عليها. واصحاب الاعمار الوسيطة من العرب وسطيون، بالمعنى الذي دلت اليه قمة حكامهم في القاهرة، وبالمعنى الذي يشير اليه صمت رجال الاعمال او استكانة العقّال على عمومهم. وهم في فلسطين، كيما ينتقلوا الى موقع فاعل ومؤثّر، ينبغي تحرير محيطهم من الاحتلال، وتحرير اقتصادهم من الحاق وتقطيع خانقين، وفي الآن نفسه تحرير ثقافتهم من ثنائي الختيار والصغار، بحيث تنقشع صورة اخرى لمجتمع متعدد الآراء والمواقع. فكيف وان رحيل ختيار كياسر عرفات قد لا يعبّد الطريق الا لختيار من طراز احمد ياسين، فيما الاطفال شلاّل لا ينضب ماؤه، لا في فلسطين فحسب بل في منطقة بكاملها يملأ الاطفال شوارعها لا سيما ابان التظاهرات. والويل للمجتمعات التي يريد المتربّصون بها ان يصوّروها جوهرية، او جوهرانية، بشيء من التنميط وشيء من العنصرية، فتتقدم هكذا راضيةً طائعةً ترفض ان تتغير وترفض، في الوقت نفسه، اطلاق الاسماء على المسمّيات.