على رغم أفول العقائد وتقلص درجة الوعي عند الطبقات الاجتماعية المختلفة، وتراجع دور القطاع العام لحساب القطاع الخاص وسيطرة الفكر النيو-ليبرالي بكل أشكاله الايجابية والسلبية على اقتصادات العالم بما فيها اقتصادات العالم العربي، بقيت السياسة الاجتماعية في تونس في طليعة الأولويات. فلم تتمكن أية موجة من موجات النظام العالمي الجديد وأدواتها المعروفة من الالتفاف على هذه السياسة، وبالتالي اخضاعها لقوانينها التي تدعي "تحرير الفرد" من القوالب الجامدة التي لم تنتج في نهاية المطاف سوى "قزم" يضع الضرورات الأمنية وقوة عنصر المال فوق كل اعتبار وحساب. لذا، أضحت هذه السياسة الاجتماعية المبنية على فكرة "التضامن الاجتماعي" والمدعومة بطبقة وسطى توازي نسبتها ال70 في المئة من القوى العاملة في صلب استراتيجية الحكومات المتعاقبة والتي حاولت ايجاد قواسم مشتركة بين ضرورات التنمية واحتياجات شرائح المجتمع التونسي الأكثر حرماناً. ووجد هذا البعد الانساني ترجمته الأكثر تعبيراً من خلال ثلاث أدوات فاعلة على مستوى التمويل والمساندة الاجتماعية، يتلخص الأول ب"صندوق التضامن الوطني" الذي أنشئ عام 1993، والثاني في "البنك التونسي للتضامن"، المتخصص في القروض الصغيرة والمسماة "بالمايكرو-كريديت"، الذي دخل اطاره العملي ابتداء من آذار مارس عام 1988، والثالث في "الصندوق الوطني للتوظيف" الذي رأى النور في كانون الثاني يناير الماضي. ومن أجل مواجهة الفقر والبطالة التي تجاوز معدلها في بعض المحافظات ال20 في المئة، لم يعد الأمر يتعلق فقط بمساعدة الطبقات المسحوقة على العيش عبر توزيع المساعدات الغذائية، أو من خلال حملات موسمية محدودة تحمل عناوين مختلفة ولا باختراع آمال تقوم على فكرة تعميم الأجور، لأن هذا النوع من المبادرات لا يمكن أن يؤمن العيش الكريم للجميع. فالهدف اليوم يتلخص بالمساعدة على خلق فرص العمل في اطار مشروع تضامني يحمل مزيجاً من الكرامة الانسانية والفعالية في آن. وفي هذا الاطار جاء المشروع التضامني التونسي الذي يستهدف بالدرجة الأولى توفير ضرورات التكامل بين الجانب الاقتصادي والجانب الاجتماعي. ثمن المجتمع الأفضل في مواجهة الهجمة النيو-ليبرالية التي تحاول دفع الدول التي تملك أسواقاً مالية ناشئة الى التأقلم مع نظريتها القائمة على مبدأ التنافس والربح، والمستندة الى ضرورة مكافحة الخسارات الواردة في موازنات القطاع العام، نجحت تونس، ولو بصعوبة، في التملص من هذه الضغوط التي تستهدف التدمير المبرمج للبنى التحتية الأساسية والتصفية التدريجية للشركات الوطنية الصغيرة والمتوسطة الحجم والتقليص من المكتسبات الاجتماعية تمهيداً لالغائها. ودفعت تونس ثمن بند "التضامن الاجتماعي" الذي بات جزءاً أساسياً من جميع الخطط الخمسية المعتمدة، غالياً خلال الأعوام الأخيرة الماضية. اذ كلفها عدم التحرير الكامل والمتسرع لاقتصادها ولسعر صرف عملتها، وكذلك التأني في فتح أبواب سوقها المالية وبورصتها واسعة أمام المضاربين - كما حصل في المغرب والذي أدى اليوم الى جمود بورصة الدار البيضاء بعد انسحاب هؤلاء المفاجئ إثر تحقيقهم أرباحاً خيالية - وتنويع شراكاتها حفاظاً على استقلالية القرار الاقتصادي، تلقي الحملات الاعلامية المنسقة من بعض الجهات الغربية التي استهدفت زعزعة استقرارها السياسي والاقتصادي في آن. لكن الانجاز الحاصل على مستوى "التضامن الاجتماعي" كان العائق الرئيسي أمام نجاح هذه الحملات في تحقيق مبتغاها حتى هذه اللحظة. وتركزت الجهود على صعيد التحويلات الاجتماعية فارتفعت لتقترب من نسبة ال21 في المئة من اجمالي ناتج الدخل القومي. وفي هذا السياق، يرى أحد خبراء البنك الدولي المتتبعين لملفات دول شمال افريقيا، انه خلال انعقاد مجلس الوزراء التونسي في منتصف تشرين الأول اكتوبر الماضي، والمخصص لدرس موازنة السنة 2001، شدد الرئيس زين العابدين بن علي على اطلاعه مسبقاً على كل النقاط العائدة للشأن الاجتماعي قبل الدخول في مناقشة النواحي الاقتصادية والأرقام والمؤشرات التابعة لها. فبعد أن استمع من الوزير المعني بالشؤون الاجتماعية الى التفاصيل كافة واطمأن الى أن هذا القطاع سيستحوذ على 61 في المئة من نفقات التشغيل التي تغطي 75 في المئة من القروض المخصصة للتدخلات الاجتماعية، فتح عندئذ باب النقاش في المسائل الأخرى. بمعنى آخر، أراد الرئيس التونسي من وراء هذا التصرف تذكير جميع المسؤولين بأن الأولوية لا تزال معقودة اللواء للشأن الاجتماعي على رغم كل العوامل الضاغطة المحيطة. ولا يبدو أن السلطات المعنية مستعدة لاستبدال هذا التوجه، الذي يعتبر من الثوابت الأساسية المعتمدة منذ نحو 13 عاماً بتوجه آخر نحو تعزيز قطاع معين لا في المدى القريب ولا في المدى المتوسط. وعكس هذا الواقع نفسه أيضاً عبر اعتماد سياسة نشطة في مجالات العمل والاندماج الاقتصادي وتحسين مستويات الاجور، وكذلك من خلال إعداد وتطوير البرامج الخاصة الهادفة الى تقليص مساحات العوز. ويأتي من ضمن هذه الخطوات، برنامج مساعدة العائلات الأكثر فقراً، وبرامج مساعدة المعاقين في ميادين العمل. وأدت هذه السياسة الى تراجع بؤر الفقر، إذ انتقلت نسبته من 11.4 في المئة في منتصف الثمانينات الى 5.2 في المئة عام 1997 والى 4.1 في المئة عام 1999. ويضف التقرير الصادر عن الأممالمتحدة حول التنمية لعام 1999 تونس بين الدول العشر الأولى التي تمكنت من تحقيق النتائج الأكثر فعالية على صعيد مكافحة الفقر. ويظهر التقرير نفسه بأن هذا التراجع المسجل ترافق مع تحسين شروط العيش، وكذلك مستوى المؤشرات المتعلقة بالرفاه الاجتماعي. ففي هذا الاطار، تراجعت المعدلات الخاصة بالسكن المعدم من 8.8 في المئة عام 1984 الى 1.62 في المئة عام 1999. اما في ما يختص بنسب توفير مياه الشرب والكهرباء، فارتفعت الأخيرة بشكل لافت خلال الأعوام الماضية، وتحديداً في المناطق الريفية. ففي مجال مياه الشفة، تعزز وضع الشبكات وانتقل اداؤها من 31.1 في المئة عام 1987 الى 85 في المئة العام الماضي. ومن ناحية أخرى، وصل معدل الربط الكهربائي الى حدود 87 في المئة بعدما كان في معدلات لا تزيد عن 27 في المئة عام 1987. ومن المتوقع أن يتجاوز ال90 في المئة بنهاية السنة الجارية. تنوع الصناديق التضامنية ان التصدي للمشاكل الاجتماعية لا يفترض وجود الأموال اللازمة فقط. فهو لا يمكن أن يتم دون وجود الأدوات المناسبة لهذا الغرض. فهذه الحقيقة فرضت نفسها منذالبداية على تونس وقيادتها السياسية. إلا أن الترجمة العملية لها لم تبدأ إلا في عام 1993 من خلال إنشاء "صندوق التضامن الوطني"، المتعارف على تسميته لدى الجمهور التونسي بحساب رقم "26/62" المفتوح في مراكز البريد. ويتلقى هذا الصندوق الهبات من الأفراد والشركات العامة والخاصة ومن الدولة والجمعيات الوطنية والأجنبية، اضافة الى المبالغ التي تخصصها الموازنات. وتشير الاحصاءات في هذا الصدد الى أن 790 موقعاً ونحو 170 ألف عائلة استفادت حتى العام 1999 من تقديمات هذا الصندوق. كما من المتوقع أن يتضاعف حجم تدخلاته الاجتماعية حتى سنة 2000 بحيث تشمل 1150 منطقة معزولة تم جردها حتى الآن. أما الأداة الثانية والتي يهتم بأدائها المراقبون الأجانب فتتمثل بتجربة "البنك التونسي للتضامن"، الذي رأى النورللمرة الأولى في 22 كانون الأول ديسمبر عام 1997. وتتركز مهمة هذه المؤسسة في تمويل المشاريع الصغيرة الحجم والعائدة للأفراد الذين يملكون مزايا مهنية وعلمية يكون أصحابها في الغالب من حاملي شهادات التأهيل أو الديبلومات المهنية، ولا يملكون الامكانات المالية الكافية ولا الضمانات التي يطلبها القطاع المصرفي التقليدي. فالتمويل الاجتماعي الصغير الحجم والمعروف ب"المايكرو-كريديت" يدعم ويشجع المبادرة الفردية للطبقات الفقيرة والوسطى، والاستخدام الذاتي وإبداع المقاولين الصغار، تمهيداً لانخراطهم في حركة النمو النشطة. فتمويل المشاريع الصغيرة المولدة للعائدات - ولو كانت متواضعة - ولفرص العمل في مختلف القطاعات المكونة للاقتصاد المهن الصغيرة الحرة، والصناعات الحرفية وغيرها، الزراعة والتجارة خصوصاً في الأوساط الريفية والحضرية الفقيرة، لا بد وأن تقلص الهوة بين شرائح المجتمع الواحد. كما يمكن ل"البنك التونسي للتضامن" أن يساهم في الجهد الهادف الى مكافحة كل أشكال التهميش والاستبعاد الناجمة عن ظاهرة العولمة واقتصاد السوق. من جهة أخرى، لم تنف السلطات التونسية وجود نقاط تلاق كبيرة لهذه التجربة مع غيرها من التجارب المماثلة في العالم، خصوصاً المحاولات الأولى التي جرت على صعيد عمليات "التمويل الاجتماعي المايكرو-كريديت". وتجدر الاشارة هنا الى "غرامين بنك" الذي انشأه محمد يونس في بنغلاديش عام 1974، وتجربة البنك الدولي في الريف المصري، وتجربة "بنكو ايتيكا يونيفرسالي" المدعومة من البنك المركزي الايطالي. إلا أن التجربة التونسية لها خصوصياتها لناحية تطابقها مع مستلزمات الواقع المحلي ومتطلبات المواطن التونسي. وتعتبر تجربة هذا المصرف بمثابة نجاح أيضاً لناحية تحريك الرساميل التي وضعت بتصرفه وتوظيفها في الاتجاه الصحيح، بعدما تم جمعها بعيداً عن الطرق التقليدية. ويعود الفضل في تكوين رأس مال "البنك التونسي للتضامن" الى القرار المتخذ بدعوة المواطنين للاستكتاب الطوعي فيه من دون اللجوء الى ترتيبات مسبقة ومعينة بين قوى السوق المالية أو بعض المصارف التجارية. وكان بنتيجة هذا الطرح للاستكتاب الشعبي أن جمعت الهيئة التأسيسية مبلغ 30 مليون دينار تونسي الدينار التونسي = 0.83 دولار من ضمنها 62 في المئة تعود للجمهور. وفي ما يتعلق بعدد القروض المقدمة لغاية نهاية أيلول سبتمبر 2000، فقد بلغت 32535 بقيمة 118608 دنانير من شأنها خلق 46312 فرصة عمل راجع الجدول. ومن مظاهر النجاحات الأخرى لهذه التجربة، تجاوز معدل تسديد الاستحقاقات نسبة 96 في المئة الأمر الذي شجع السلطات التونسية على التفكير في زيادة عدد القروض التي سيوفرها هذا المصرف، وبالتالي البدء بتوسيع رقعة انتشاره ليشمل باقي المدن والمناطق الريفية. وتلعب الأداة الثالثة "الصندوق الوطني للتوظيف" دوراً تكاملياً في مشروع "التضامن الاجتماعي". اذ استطاع بعد ثمانية أشهر من انشائه تحقيق نتائج ملحوظة بحيث تمت الاستجابة الى نحو 90 في المئة من طلبات العمل خلال هذا العام علماً بأن عدد طالبي الوظائف انتقل من 50 ألفاً الى 70 ألفاً للفترة نفسها. أما الأهم فيتمثل في قدرة الصندوق على حل مشكلات حاملي الشهادات العليا الذين تم تأمين وظائف لهم في مجال المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصالات. فمن أصل 71700 طلب اضافي تمكن الصندوق من تلبية 67 ألفاً ومن المتوقع أن يتراوح العدد بين 79200 و80400 خلال السنوات 2001 - 2005. وتشير التقارير الواردة في هذا السياق انه على رغم نمو منتظم بمعدل ستة في المئة وارتفاع الدخل الوسطي للفرد من 1000 دينار عام 1986 الى 2720 ديناراً عام 1999، لم تتمكن تونس من تأمين العمل لجميع طالبيه من القوى العاملة، اضافة الى أن البطالة بدأت تمس حاملي الشهادات العليا الذين يتزايد عددهم باستمرار ويمكن أن يصل الى 183 ألفاً خلال السنوات الخمس المقبلة، الأمر الذي افترض انشاء هذا الصندوق الذي بدأ يعطي نتائج جد ايجابية. واستناداً لما تقدم، يمكن الاستخلاص بأن تجربة الصناديق التضامنية الايجابية شجعت الرئيس بن علي لتوجيه نداء الى قادة العالم كافة والى المؤسسات الأممية والدولية لإنشاء "صندوق عالمي للتضامن" يتولى جميع التبرعات والمساهمات الخيرية لتوظيفها في مقاومة الفقر والنهوض بالمناطق الأكثر بؤساً. * اقتصادي لبناني.