يعكس ارتفاع مبان حديثة للمصارف التجارية التونسية على جانبي جادة محمد الخامس أكبر شوارع تونس التطورات الكبيرة التي شهدها القطاع المصرفي المحلي في الأعوام الأخيرة. فمنذ تدشين مقر المصرف المركزي عام 1980 تعددت المقرات التي انشئت في الجادة التي يمكن تسميتها "جادة المصارف". إلا أن المصارف الأولى كانت عامة مثل "الشركة التونسية للبنك" و"البنك القومي الزراعي" أما اليوم فإن مقرات المصارف الخاصة تعتبر الأفخم والأجمل عمارة، وآخرها مقر "بنك الأمان" الذي دشنه أخيراً رئيس مجلس الادارة رشيد بن يدر والمدير العام أحمد الكرم وكذلك مقر "بنك الاسكان" الذي وضع له حجر الأساس مطلع السنة الجارية، ما يدل على الأهمية المتزايدة للقطاع الخاص في الجهاز المصرفي التونسي. ويتألف الجهاز من 13 مصرفاً تجارياً وثمانية بنوك تنمية بينها ستة مع البلدان العربية هي "البنك التونسي - الكويتي للتنمية" و"بنك تونس والإمارات للاستثمار" و"مصرف شمال افريقيا للتجارة الخارجية" تونسي - ليبي و"البنك التونسي القطري للتنمية" و"بنك المغرب العربي" تونسي - جزائري و"الشركة التونسية - السعودية للاستثمار الانمائي". وبعدما كان القطاع العام يحتكر الحصة الرئيسية من المعاملات المصرفية في العقود الماضية تطورت حصة المصارف الخاصة في وتيرة سريعة خلال الأعوام الأخيرة. ويتصدر كل من "بنك تونس العربي الدولي" و"بنك الأمان" لائحة المصارف الخاصة التونسية، اذ يأتي الأول في المرتبة الثالثة بين المصارف المحلية والأول بين المصارف الخاصة. ويملك "بنك الأمان" 71 فرعاً وتطورت موازنته من 1.1 بليون دينار الى 1.3 بليون دينار أكثر من بليون دولار العام الماضي بزيادة نسبتها 20 في المئة، فيما اجتاز حجم الودائع سقف البليون دينار للمرة الأولى بزيادة نسبتها 14 في المئة قياساً على الحجم المحقق عام 1997. وعزا المدير العام للبنك السيد أحمد الكرم هذه الزيادة الى اطلاق صيغة القرض العقاري التي استقطبت أعداداً كبيرة من عناصر الفئات الوسطى التي تسعى لبناء بيوت خاصة. وفي اطار تشجيع المصارف على التخصص، انشأ التونسيون العام الماضي مصرفاً متخصصاً بتمويل الحرفيين الذين يعتزمون انشاء ورشات خاصة وكذلك الكوادر الذين لا يملكون امكانات لانشاء مصانع صغيرة في مجال تخصصهم. وأتت خطوة انشاء "بنك التضامن الوطني" استكمالاً لخطوات أخرى ترمي الى تعزيز المؤسسات الصناعية الصغيرة وفي مقدمها السماح ل"الصندوق الوطني لتأمين الصناعة" بتغطية 90 في المئة من القروض الممنوحة لحرفيين بهدف انشاء ورشات أو مصانع صغيرة، ورفع سقف القروض التي يمنحها "الصندوق الوطني لتطوير الحرف والصنائع" من 30 ألف دينار نحو 30 ألف دولار الى خمسين ألفاً. وساهم وجود البنك الجديد في حل عقدة التمويل التي حالت في الماضي دون منح المصارف قروضاً لكثير من طالبيها لضآلة نسبة التمويل الذاتي أو لعجزهم عن تقديم الضمانات. وقال المدير العام المساعد للبنك السيد سليمان ورق ل"الحياة" انه منح أكثر من 12 ألف قرض في السنتين الأوليين من انشائه بلغت قيمتها أكثر من 47 مليون دينار نحو 43 مليون دولار. تحرير سوق الصرف من جهة أخرى، اتخذ المصرف المركزي التونسي أخيراً قراراً أجاز بموجبه للمصارف التجارية القيام بعمليات الصرف بالعملات الأجنبية مع المصارف الخارجية من دون الرجوع الى المصرف المركزي. وتندرج خطوة تحرير سوق الصرف في اطار تهيئة الجهاز المصرفي المحلي لمجابهة المنافسة الخارجية بعد انطلاق العمل باتفاق الشراكة الذي توصلت اليه تونس والاتحاد الأوروبي عام 1995. وينسحب الاجراء الجديد على الصفقات المؤجلة التي يعقدها غير المقيمين بشرط ألا تتجاوز آجالها 12 شهراً. وفي إطار تحديث الجهاز المصرفي اتخذ مجلس الوزراء التونسي أخيراً اجراء يقضي بإنشاء شركات متخصصة لاستخلاص الديون المصرفية لتخفيف الأعباء عن البنوك. ويرمي الاجراء الذي وافق عليه مجلس النواب إلى تطوير نجاعة المصارف وتعزيز الجهاز المصرفي الذي تم تدعيمه أخيراً بإنشاء شركات الأعمال. وستتولى الشركات الجديدة شراء الديون التجارية والمالية من المصارف ومتابعة استخلاصها حتى تتفرغ المصارف لمهمتها الأساسية بعدما تؤمن استعادة القروض التي منحتها. ودعت المصارف المحلية إلى بذل مزيد من الجهود لتعبئة ايرادات إضافية خلال المرحلة المقبلة إن في اطار التعاون مع مؤسسات مالية خارجية او بتحسين استخلاص الديون. وأنيط بالمصارف التجارية المحلية منذ العام الماضي تمويل خطط تحديث المصانع المحلية التي يتوقع ان تمثل أربعة آلاف مصنع في إطار الاستعداد لتنفيذ اتفاق الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى المساهمة في دعم الاستثمارات الجديدة في القطاع الصناعي والزراعي والخدمي. وأكد حاكم المصرف المركزي التونسي محمد الباجي حمدة ل"الحياة" ان ادخال اصلاحات واسعة على الجهاز المصرفي يرمي إلى جعله قادراً على التكيف مع استحقاقات مرحلة الانفتاح الشامل على الاتحاد الأوروبي. وأوضح حمدة ان الاصلاحات المنْويّ ادخالها ستشمل جانبين رئيسيين: أولهما إعادة هيكلة المصارف بما يعزز صلابتها المالية من خلال تجميعها أو ادماج بعضها في مصارف أكبر، والثاني تحديث وسائل الدفع وتعزيز سلامة العمليات المصرفية. وتدرس حالياً مصارف محلية خططاً للاندماج أهمها بنك تونس والإمارات والمصرف التجاري. وأفاد حمدة ان انخراط تونس في الاقتصاد الدولي طرح استحقاق التحديث، إلا أنه أتاح في الوقت ذاته فرصاً لتعميق الاصلاح وتطوير الجهاز المصرفي. وأفاد ان تونس ستمنح الأولوية في السنوات المقبلة لزيادة حجم التوفير الداخلي والذي سترتفع حصته الى 27 في المئة من قيمة الاستثمارات، وكذلك استقطاب مساهمات خارجية خصوصاً في صيغة استثمارات مباشرة، وأكد ان المصارف ستقطع مع أساليب الادارة القديمة والتي لم تعد مناسبة لمرحلة العولمة. وأشار الى ان عنوان المرحلة الجديدة سيتركز على التكامل بين دوري القطاعين الخاص والعام لتعزيز قدرة الاقتصاد المحلي على مجابهة المنافسة المتزايدة الآتية من البلدان الاخرى خصوصاً اوروبا. وفي أول خطوة لتخصيص مصرف عمومي باع "بنك الجنوب"، الذي يأتي في المرتبة السادسة بين المصارف التجارية التونسية، قسماً من رأسماله الى القطاع الخاص ما أدى الى تراجع مساهمة الحكومة فيه الى أقل من ثلاثين في المئة. وبموجب قانون المنشآت العمومية الذي صدر عام 1989، لا تعتبر المؤسسات التي تقل مساهة الحكومة فيها عن 34 في المئة تابعة للقطاع العام. ما يعني ان "بنك الجنوب" هو اول مصرف ينتقل من القطاع العام الى القطاع الخاص وستليه مصارف اخرى. وشكل انشاء شركات متخصصة بالتأجير المالي مظهراً آخر من التحولات التي شهدها الجهاز المصرفي إذ قطع نظام التأجير المالي في تونس اشواطاً مهمة في تكريس دوره كأحد الأدوات الرئيسية لحفز الاستثمار وتطوير المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تسعى الى تحديث تجهيزاتها وتحسين أدائها. وبعدما اقتصرت التجربة على مؤسسة واحدة لدى الانطلاق عام 1984، تطور عدد المؤسسات الجديدة المتخصصة بالإيجار المالي الى سبع مؤسسات حالياً تعمل بدرجات متفاوتة من الفعالية. واللافت ان المؤسسة الأولى في هذا المجال وهي "الشركة التونسية للإيجار المالي" التي يديرها احمد عبدالكافي لا تزال تحتل المرتبة الأولى في القطاع وهي تستأثر ب31 في المئة من الحجم الإجمالي للتمويلات في القطاع طبقاً لتقرير اقتصادي رسمي حصلت عليه "الحياة". وظهرت ثاني شركة في هذا المجال وهي "الاتحاد التونسي للايجار المالي" عام 1990 أي بعد ستة أعوام من ظهور المؤسسة الأولى، لكن النجاح الذي لاقته حمل متمولين من القطاع الخاص ومصارف تجارية على انشاء شركات متخصصة بالتأجير المالي، وتعتبر الشركة الأنجح بينها "الشركة العربية التونسية للإيجار المالي" التابعة للبنك العربي لتونس. وكانت الشركة اعلنت أخيراً أن أرباحها الصافية للعام الماضي بلغت 1.81 مليون دينار 1.61 مليون دولار، وانها تعتزم طرح عشرة في المئة من أسهمها للاكتتاب بعد رفع رأس مالها من ثمانية الى عشرة ملايين دينار. وانتقلت "التونسية للإيجار المالي" أخيراً الى مرحلة أعلى فأنشأت مؤسستين فرعيتين هما "الشركة التونسية للقيم" للتعاطي في سوق الأوراق المالية و"الشركة التونسية للاستثمار" المتخصصة بتمويل المشاريع التنموية والتي تبوأت مركزاً متقدماً في هذا المجال. وارتفع عدد شركات الاستثمار في تونس الى مئة مذ باشرت السلطات التشجيع على انشاء هذا الصنف من الشركات. وقدر رأس المال الاجمالي للشركات بأكثر من بليون دينار نحو بليون دولار. وأدخلت تونس أخيراً تنوعاً على شركات الاستثمار ما أتاح ظهور ثلاثة أنواع مختلفة منها تركز اهتمام أكثرها على المساهمة في مشاريع التنمية الصغيرة والمتوسطة في المحافظات.