تتحدث الروائية السورية أستاذة الأدب العربي في جامعة حلب شهلا العجيلي في هذا الحوار عن روايتها "سماء قريبة من بيتنا"، المرشحة للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة، واصفة إياها كما وصفها آخرون بالملحمة.. كما تحدثت عن عديد من الأمور الفنية في العمل وفي الرواية عموما في الحوار التالي: التحكم بالسرد * تتقافز شخصيات الرواية أمام القارئ واحدة تلو الأخرى ثم تنسرب حكاية كل شخصية خلفها كخيط طويل.. كيف تمكنتِ من الإمساك بكل هذه الخيوط؟ * هذا هو أحد تحدّيات الرواية، قدرة الروائي على التحكّم بحركة السرد، وضبط إيقاع الشخصيّات وحكاياتها، لا سيّما أنّ الراوية الرئيسة هي واحدة من الشخصيّات الفاعلة، المتورّطة بالحكاية.. لقد تعمّدت أن أصنع شخصيّات كثيرة، لأنّ العمل كتب بمقاربة ملحميّة، كما أنّني أردت أن أطوّر تقنيّة البناء السرديّ لديّ عبر مراجعة طريقتي في بناء الشخصيّة. بدأت ب(عين الهرّ) بسبك شخصيّة واحدة محوريّة، بنيتها نفسيّاً وفيزيائيّاً، وجعلت ما حولها يخدمها بظهور أقلّ، وفي (سجّاد عجميّ) صنعت مجموعة من الشخصيّات المتمايزة رجالا ونساء، ولكن بعدد صفحات أقلّ، أيّ بحكايات أقلّ.. صناعة التمايز عمليّة صعبة جدّاً، إذ يجب تكوين شخصيّات مختلفة في أشكالها وأفكارها ورغباتها، وفي الوقت ذاته تخضع لمنطق المرحلة، وللمورفولوجيا ذاتها، وعلى تفاصيل المرحلة التاريخيّة أن تكون في خدمتها. لا تستطيع في الرواية أن تخلق من الشبه أربعين، كما يحصل في الحياة! ويبدو أنّ الخبرة تلعب دورها في الصنعة الروائيّة. صناعة الصُدف * تظهر شخصيات ثم تختفي ولا تعود ثم تظهر أخرى ثم تعاود الظهور أخرى.. ما الذي كان يقودك في لعبة التقديم والتأخير والإخفاء والإظهار تلك؟ أو على أي أساس كنت تعتمدين في ذلك؟ * الصدف هي التي تعيدها إلى مسرح الأحداث، كما في الحياة تماماً.. في الرواية نصنع الصدفة، وفي الحياة نقول إنّه القدر، أو المكتوب.. لعلّني استعملت إيقاع الواقعيّة إلى حدّ كبير، فلا شيء من قوانين الواقع يمنع الغياب، أو اللقاء، وكلّما كانت علاقات الناس مفتوحة، وخبراتهم عميقة، وتنقّلاتهم كثيرة كما هو حال أبطال روايتي الذين يمثّلون الحياة في بلاد الشام، ستكون احتمالات اللقاء والغياب أكثر، لأنّ إيقاع حياتهم عبر التاريخ أسرع ممّا هو عند غيرهم. من جهة أخرى، لن يفلت أحد من إطار السرد، إذ تمشي الشخصيّة في درب حياتها، لكنّ الروائيّ الذي رسم مداها، لا يتركها من غير أن يتمّم قدرها، ويشفي غليل المتلقّي. مجازية الرواية * تتفق شخصيات الرواية في معظمها بأنها تحمل شهادات مرموقة من جامعات عالمية وكذلك تتفق في كونها ممزقة جراء الحروب والنفي والصراع. ما تفسيرك لهذه المفارقة؟ * الحرب تنال من الجميع، من الأبرياء ومن المتورّطين، ونتائج الصراعات والتحوّلات السياسيّة ستطال المتعلّم والجاهل والغنيّ والفقير، وستكون ردود الفعل والآثار مختلفة وفقاً لعوامل لا يمكن حصرها، منها التعليم والمستوى الاجتماعيّ والثقافة والإديولوجيا والاقتصاد.. لقد فرض تاريخ المنطقة، الكثير من التنقّلات، والهجرات، والهجنة الثقافيّة والأنثروبولوجيّة، فأدرك أبناء الثقافة الزراعيّة والتجاريّة المدينيّة منذ وقت طويل أنّ العلم أو الثقافة الأكاديميّة تخفّف من قسوة التحوّلات السياسيّة والعسكريّة، فتراهم يبيعون ما يملكون لتعليم أبنائهم أفضل تعليم، انظر إلى الفلسطينيين مثلاً، والذين يمثّلهم الدكتور ناصر العامري في روايتي، وكذلك يوسف الشريف، وولده الدكتور يعقوب.. لقد انفتحت بلادنا على التطوّر والمدنيّة والعمران، ونحن لسنا شعوباً غوغائيّة تعيش على هامش التاريخ، عمرنا عشرة آلاف سنة من الحضارة، والرواية ليست مجتمع الفقراء والمسحوقين فحسب، فروايتي لا تخضع للإديولوجية الاشتراكيّة مثلاً، إنّها تحكي عن تحوّلات انتابت محاور شرق أوسطيّة على مدى مئتي سنة فيها الأرستقراطية السورية، والبرجوازيّة بشقّيها الكبيرة والصغيرة، تلك الفئة المهمّشة من الكتابة الروائيّة، وفيها كذلك المسحوقون والفقراء واللاجئون والمتنفّذون والمرضى.. الرواية مجاز لحياة بنية اجتماعيّة ما، بصراعاتها وتناقضاتها التي تخلق الدراما والحواريّة، ولعلّي قصدت أن أسلّط الضوء على هؤلاء الناس المتعلّمين، والمثقّفين ثقافة عالية فنيّة وعلميّة، الذين يشكّلون شريحة كبيرة من بنيتنا الاجتماعيّة العربيّة اليوم، لنرى كيف تنال منهم الحرب بطريقتها، وكيف يتعاملون معها بطريقتهم، إنّ ردود أفعالهم تختلف في التعامل مع المرض، والجسد، واللحظات الأخيرة، والإيمان، والتاريخ، ووعي بعضهم نتيجة المعرفة صار وعياً فرديّاً متمرّداً على وعي الجماعة في التعامل مع الصراعات والثورات. توظيف المعرفة * تضمنت الرواية توظيفا للأسطورة والتاريخ والفلسفة والأدب ووعيا عميقا بكل ذلك.. هل نقول انك استفدت من خبرتك كأستاذة للأدب في ذلك؟ وهل حملت جزءا من حياتك الشخصية بين "الرقة" و"عمان"؟ * لاشكّ في أنّني أوظّف معارفي وخبراتي بكلّ تفانٍ في كتابتي الروائيّة، وأستغلّها بحيث أصنع نصّاً مختلفاً، غنيّاً بالثقافة، فالثقافة تختصر الزمن الذي نحتاجه لنتعلّم فنّ الحياة، والرواية هي سردنا الذي نحاول فيه أن نصوغ فهمنا للحياة بوصفنا فنّانين. لقد استفدت من نظريّات الفنّ، وعلم الجمال، وتاريخ الأدب والنقد. نحن في النهاية خلاصة معارفنا وخبراتنا، والرواية هي أكبر مجلى لهذه الخلاصة. لكنّ التوظيف لا يعني أن تكتب نصّاً معقّداً، إنّ الكتابة عن أبسط الأشياء، وعن أبسط العلاقات تحتاج وعياً معرفيّاً وجماليّاً، وإلاّ ستكون قولاً طفلياً عابثاً ينجح مرّة، ويخفق مرّات. في هذا الإطار فأنا لا أتوقّف عن قراءة النقد، والإسهام في حقله كي تظلّ أدواتي الكتابيّة متجدّدة ومستشرفة لمزاج المرحلة القادمة.. يقول كونديرا نحن نعيد سيرة حياتنا بدلالات مختلفة، وقيل إنّ الرواية سيرة ذاتيّة ملتبسة.. بالنسبة إليّ، فأنا أستفيد كثيراً من مخزون حياتي وتجاربي، كما أنّ الروائيّين عادة يقحمون ذواتهم في تجارب ولنقل مغامرات يستحثّون فيها ملكتهم الكتابيّة، ليغنوا أرواحهم وحيواتهم، لكنّ ذلك كلّه يخضع لكثير من الخيال والصنعة، بحيث يصعب جدّاً العثور على اللقطة أو الشخصيّة التي تمّ الاستلهام منها، حتّى على الروائيّ ذاته أحياناً. حدث ذلك معي مرّات، كأن أكتشف مثلاً بعد سنوات من الكتابة أنّ أصل هذه الشخصيّة أو المشهد كان حادثة معيّنة، أو وجهاً لمحته في طفولتي المبكّرة على قارعة طريق.. إنّها الذاكرة البشريّة المخاتلة، وتلك الآلة العجيبة التي نسمّيها الدماغ! الرحلة بين الرقّة وعمّان مثاليّة للكتابة عنها، لا سيّما بعد الحرب المؤسفة على سورية، أنا أعيش دائماً في مكانين على الأقلّ، وذلك منذ طفولتي، والرواية تحبّ المسافات البينيّة، حيث لا يقينيّات. البداية بالحوار * انتقل السرد في أجزاء كثيرة من الجزء المعنون ب"سليل كرملهايم" إلى لسان "ناصر" على شكل حوارات طويلة.. لماذا؟ * صار (ناصر) بعد فقد أمّه، ووقوعه في الحبّ بحاجة إلى الكلام، كما قدّمت (جمان) لذلك في الرواية.. ناصر اللاجئ القديم، والمغترب عن اللّغة والتاريخ والنساء العربيّات والموسيقى التي تربطه بأمّه وبحلب، أيقظ فيه الحب والفقد الحنين لكلّ ما كان في طفولته ويفاعته، لا بدّ له من الحكي إذن، وجمان مستمعة جيّدة، ومحبّة، وأنا أقول دائماً إنّ العلاقات تبدأ بالحوار، وبه تنبني. الحوار يولّد الأفكار أيضاً، لا يطرح المسلّمات والمعارف فحسب.. ثمّ إنّنا قبل أن نبوح بالحبّ نتكلّم كثيراً عن تاريخنا وطفولتنا وأطعمتنا المفضّلة، وأحلامنا.. وقد نقول أشياء ليست بذات أهميّة، كي نستبقي الآخر ربّما، وربّما لنحفظ نار الشكّ من أن تخبو كما أشار المتنبّي، أو لنؤجّل الاعتراف بمشاعرنا! ما يهمّ أيضاً أنّ الضرورة الفنيّة لحركة الشخصيّتين ناصر وجمان، استدعت لقاءات قليلة لكنّها طويلة، والأحبّة الذي يعيشون في أماكن منفصلة وبعيدة يريدون أن يقولوا كلّ شيء في لقاءاتهم المتاحة، لأنّ الوقت لا يكون في صفّهم. تعدد الشخصيات * مع كثرة شخصيات العمل، هل نستطيع القول ان بعض هذه الشخصيات قد "أفلت" من قبضة الروائية مثل شخصية "جود"؟ وكيف نفسر هذا الارتداد -إن جازت التسمية- الذي حدث لها؟ * لم يفلت أحد من قبضة الروائيّة!، أعتقد أنّ كلّ شخصيّة جاءت في وقتها المناسب، وخضعت لأولويّات نفسيّة وفنيّة: كانت الراوية مشغولة بذاتها عن الآخرين، بمرضها وجسدها، ومريض السرطان يفكّر بجسده وبشفائه فحسب، وبالأشخاص الأكثر قرباً منه، أولئك الذين يساعدونه على الشفاء، وهم طبيبه ومن يرافقه في رحلة الألم مثل ناصر وهانية. حينما بدأت جمان تستعيد ذاتها جاء دور الكلام عن الأختين البعيدتين، وكان المحرّك الرئيس هو التوقيت أي الحرب، والتحوّلات التي انتابتهما بسببها، إذ لو لم يغرق زوج جود على ساحل لامبيدوزا لما كانت جود قد ظهرت على مسرح الحدث بهذه الكثافة، ولو لم تتزوج سلمى بروح الأمين في مرحلة لاحقة لما جاء الفصل الخاص بها بعد الكلام على جود.. مفارقة الأحداث * بعض الأحداث تتصف بالغرابة مثل حكاية "القراصنة" مع "سلمى".. ما تفسيرك لها؟ وكذلك صدق نبوءة المرأة في "الزعتري" حول مستقبل "جمان"؟ * عمدت إلى خلق هذا الواقع المدهش المسمّى اصطلاحيّاً ب(العجيب) لكي أصنع المفارقة بين تلك السعادة البعيدة وبين واقع الحرب والدمار والمرض، وأؤكد على الانهيارات المؤثّرة في حياة الشخصيّات، وهذا منح النصّ دراميّة وحركة، تماماً كما حصل مع الطرواديين الذين عاشوا واقعاً سعيداً، ثمّ باغتتهم حرب الهيلانيين.. وأعتقد أنّ نبوءة امرأة الزعتري شغلت المتلقّين وجعلتهم يرجون ألاّ تصدق، لكنّها صدقت لأنّ ما يريده المتلقّي لا يتحقّق دائماً في الروايات، لابدّ من هدم اللذات وتفريق الجماعات، فذلك من ديدن الحياة. جديد العجيلي * ما الجديد القادم بالنسبة لك؟ * (سرير بنت الملك)، مجموعة قصصيّة طازجة، ثلاث وعشرون قصّة قصيرة، كتبت على مدى ثماني أو تسع سنوات، وهي من منشورات ضفاف بيروت، ومجاز عمّان، والاختلاف الجزائر، سيتمّ إصدارها وتوقيعها في معرض عمّان في أيلول إن شاء الله.. وبين يديّ كتاب نقديّ حول السرد العربيّ الحديث من مدخل ثقافيّ، سيصدر قريباً.