شهد العالم العربي الكثير من ثورات التحرر، حالف بعضها النجاح، ومني بعضها بكثير من الفشل، لكن الأدب لم يتوقف كثيراً أمام النوع الأخير بقدر ما راح يحلل أسباب نجاح الأول وربما عوامل تفريغه في ما بعد من المحتوى الذي قام من أجله، فقليلاً ما تحدثت الأعمال الأدبية عن الثورات التي خمدت من قبل أن تحدث جدواها، ربما لأن كتابنا اعتادوا العمل على غرار أدبيات التأريخ، وربما لأن ما حدث في الواقع من نجاح هيأ الجمهور لتقبل الأعمال التي يمكنها أن ترصد ما حدث، لكن الكاتب البحريني خالد البسام في روايته الأخيرة «مدرس ظفار» - صدرت عن دار الأمل في بيروت - قرر التعرض لواحدة من تلك الثورات التي أكلت نفسها من الداخل، ومنيت بهزيمة وفرار أصحابها إلى خارج البلاد، وهي الثورة العمانية التي اتخذت من مدينة ظفار في جنوب عمان مركزاً لها في سبعينات القرن الماضي، والتي رغبت في تغيير نظام الحكم من السلطنة إلى الجمهورية على غرار الثورة المصرية في الخمسينات، واليمنية في الستينات، حتى أننا يمكننا أن نلحظ العديد من التقاطعات والخيوط المشتركة بين الثورات الثلاث. تجيء لعبة السرد في «مدرس ظفار» على لسان واحد من الذين آمنوا بالثورة، وتعلموا في البلد التي أعدها أغلب ثوار العالم العربي ملهمهم إن لم يكن خط الإمداد الواصل بينهم وبين مركز الفكر الثورة الأولى التي أرادوا السير على نهجها، لكن - فهد - البحريني الذي التحق بالثورة العمانية كرفيق في مدارس جبهة التحرير ب «الغيظة» لم ير الثورة ورجالها من الداخل، بل لم يشارك في قيامها أو حتى نضوجها، إذ شاء الحظ أن يكون فقط مدرساً لأبناء الثوار الذين فروا إلى جنوب اليمن، ومن ثم كانت معلوماته عن ثورة ظفار من الجرائد والصحف التي راحت تنشر صور زعمائها وانتصاراتهم، فظل يمني نفسه بأن يكون واحداً من بين صناع التاريخ في المكان إلى أن جاءه خطاب من «الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي» لينضم إلى الثورة كمدرس، ورغم أن الواقع لم يأته بالحلم كاملاً لكنه أتاح له أن يكون واحداً من الرفاق المناضلين من أجل الحرية في الصفوف الخلفية كمدرس، ومن ثم ارتحل من القاهرة تاركاً دراسته إلى عدن عبر مطارات عدة، ليكتشف أنه يحظى بالذهاب إلى ظفار نفسها، إذ أنه سيبقى في «الغيظة» حيث مدارس أبناء الثوار العمانيين الفارين إلى شمال الجنوب اليمني، ومن خلال تجربة في العمل لعام دراسي واحد يتضح له أنه جاء متأخراً، فقد فقدت الجبهة مواقعها في ظفار، وأخذ أبناؤها يتسللون إلى جبهة النظام، بينما أبناؤهم التلاميذ راحوا يتندرون على أساتذتهم وما يحاولون بثه في نفوسهم عن الثورة والتغيير، ليكون فهد أحد شهود العيان على لحظة التآكل الداخلي لثورة كان أبناء الخليج يعولون عليها في تغيير حياتهم ونظمهم السياسية والفكرية. تضعنا الرواية أمام العديد من الملاحظات حول واحدة من الثورات العربية التي كان البعض يتوقع أن تغير ملامح منطقة الخليج العربي، لولا أنها جاءت متأخرة عن موعد ثورات التحرير والمد الشيوعي في المنطقة، بخاصة وأن مطلع السبعينات شهد رحلة تحول كبرى من المعسكر الشرقي إلى المعسكر الغربي في مصر، ومن ثم رفع النظام المصري يده عن دعم الشيوعية والثورات المؤمنة بأفكارها، في حين راحت روسيا تنسحب من المنطقة يوماً بعد الآخر، ولم يبق لها غير مراكز صغيرة كعدن للوقوف خلف المؤمنين بالفكر الشيوعي، ورغم أن عدن قدمت كل التسهيلات الممكنة للعمانيين إلا أن قدراتها على الإمداد والدفع بالعمل الثوري إلى الأمام كانت أقل مما تحتاجه ظفار، ما جعلها تبقى وحيدة في مواجهة قوى الإمبريالية والغزو الإيراني كما قال مسؤول مدارس الجبهة لفهد، فضلاً عن أن الثورة في ظفار كما أبرزها البسام نشأت في بدئها للدفاع عن حقوق العمانيين في الجنوب، ومع سيطرتها على المدينة وعدد من المواقع العمانية وسعت الجبهة إلى تأجيج رغبتها في التحرير لتشمل الخليج ككل، وهو ما لم تكن مؤهلة لعمله وحدها في ظل مجموعة من الأنظمة المعادية للتحول الجمهوري، كما أن صبغتها القبلية أدت إلى تصادم العادات والتقاليد مع الفكر الشيوعي الذي رغبت في التحول إليه، مما زاد من صعوبة المهمة وأدى إلى توالي الهزائم والانسحابات من المواقع ثم الخروج من ظفار إلى الغيظة، لتتمركز الحركة على نحو أشبه بحكومة ظل غير معترف بها، ومع أول انفراجة بين القبائل والسلطة أخذت العناصر الفاعلة في التسرب من النضال، وهو ما أدى إلى التآكل والفشل الذي لم يوضحه الإعلام بقدر ما لمسه بطل الرواية على أرض الواقع. كانت «الغيظة» بما لها من مدلول لغوي معبر عن الغضب مسرح أحداث الراوية التي رصدت معاناة التدريس لأبناء قبائل أخذت في الفرقة وتصاعد نعرات التعالي والبحث عن أسباب للانسحاب من العمل الثوري بشكل أو آخر، ومن ثم كانت قناعتهم بتلقي العلم على يد مدرس من البحرين لا يستطيع التفاهم معهم بلغاتهم الشعبية أقل جذوة من الحنين إلى بلدانهم، رغم أن مدرسيهم كانوا من بلدان خليجية مختلفة، وجميعهم تركوا أعمالهم وبلدانهم وجاؤوا للعمل كمتطوعين لخدمة ثورتهم، حالمين بتحقيق العدالة للطبقات الفقيرة والمهمشة. حملت الرواية عدداً من المتناقضات، بدءاً من العنوان الذي كان ينبغي أن يكون «مدرس الغيظة» لا «مدرس ظفار» - إذ أن أحداث النص وتجربة الراوي كانت في الأولى - وانتهاء بأننا لم نستطع التعرف على انحياز الكاتب، إذ بدا متحمساً في النصف الأول من العمل للثورة وانتهى أقرب إلى تيار المحافظين، مروراً بأن العمل المكرس لرصد جانب من نهايات واحدة من الثورات العربية التي لم يكتب لها النجاح لم يتعرض لنشأتها أو تاريخها وإنجازاتها، لكنه توقف عند حدود رصده لمشهد الزوال أو النهاية من دون تقديم أسباب أو تحليل واضح لما حدث، ما يجعلنا أمام تساؤل عن هدف الكاتب من التعرض لثورة التي لم تحدث على أرض بلاده، وإن كنا لا ننزع عنه الرغبة في تحية ثورة لم يلتفت إليها الكثير من كتابنا الكبار.