لنجعل من انتفاضة الأقصى تقويماً نؤرخ به للألف الثالثة من الميلاد، ولنجعل من دماء محمد درة نداء يصبغ مشروعنا السياسي والفكري الذي نتقدم به لأنفسنا وللعالم. ولنجعل من حيوية الشعب الفلسطيني العظيم نبعاً ثراً يدل على ما تملكه الأمة العربية من طاقات، تكبتها أنظمة الحكم وإعلامها المضلل. إن تحرير القدس، هو في الحقيقة، عنوان على تحرير شامل، لكل طاقاتنا وملكاتنا. تحريرها من الأوهام، من الذل، من الخنوع، من الانخداع بإنسانية الحضارة الاميركية. تحريرها من أوهام القمة العربية، ومن حلول التكيف مع العالم ومع الزمن، ومن كل ما يتنافى والبدهية البسيطة. فلسطين هي أرضنا من النهر إلى البحر، وهي لا تستقيم إلا أن تكون ملكاً لشعبها وحده، وتحريرها هو الفاصل بين قبولنا بالهزيمة أو استعدادنا للشهادة. تحريرها هو العتبة التي ندخل منها إلى باحة التاريخ، أو ندفن تحتها لنكون من حفائر الآثار، وتحريرها هو الصك الوحيد الذي يشهد لنا أننا ننتمي إلى فصيلة الإنسان، أو أننا كائنات مغلوطة الهوية ومفسودة الطبع ومنحرفة الفطرة. أجل، تحرير القدس، عنوان على مشروع تحرري عميق، يحرر الإنسان العربي، من أوهام الخوف، الخوف من الاستعمار الأجنبي، ومن الاستعمار المحلي، الخوف من الإقدام على المجهول ومن الهزيمة المعجّلة. حين رأيتُ الطفل محمد درة يتلوى تحت الرصاص يأتيه بالموت المنهمر، ذهبت إلى غرفة ولدي باسم، وكأنني أحسستُ أن الدور القادم سوف يكون عليه. رأيتُ الخطر يتراقص رقصة الشيطان، وأنا أنظر إلى ولدي بعيون حائرة وأعصاب ثائرة ومشاعر فائرة، وعدتُ إلى غرفة مكتبي، وأغلقتُ الباب، وأحكمت إغلاقه، وأجهشتُ في بكاء لم أملكه، ودموع لم يكن لي عليها من سلطان، وأخذ جسدي ينتفض، وعلا صوتي وغرقت في نحيب كأنه المطهر مما نحمله من أرجاس وما تنطوي عليه نفوسنا من ضعف وخور. توهمتُ أنني استطيع أن أكون مارداً يقاتل براً وبحراً وجواً، ونسيتُ أنني عربي مترهل، مكرش "بليد الخطو عزمه خائر". خرجتُ من غرفة المكتب، وذهبتُ إلى شرفة المنزل، متمنياً وحالماً أن يكون الناس، قد اهتاج منهم ما اهتاج مني، وفاض بهم ما فاض بي، فنزلوا إلى الشارع، ليطفئوا ما يشتعل في جوفهم من الحرائق، وليجففوا ما تجود به عيونهم من المدامع. ولكنني وجدتُ الشارع صامتاً كأنه الجبّانة، والسيارات مرصوفة الى جوانبه كأنها القبور. نظرتُ إلى السماء فلم أجد إلا عالماً من الصمت البهيم، لا يبوح بشيء، ولا يعبر عن شيء. فعدتُ إلى نفسي، فإذا بها تنتفض من جديد، وأغرق في بكاء لا حدود له، وأجود بدمع ساخن كأنه يغلي في قدر أو يفور فوق موقد. ذهبتُ إلى مرقدي وإلى مثواي، متمنياً أن يكون مثواي الأخير، ألقيتُ بجسدي محاولاً استدعاء النوم، فجاءتني أفكار شتى، وهواجس شتى، وذهبتُ في حال بين اليقظة والنوم، فلستُ متيقظاً لأعي ما يدور في نفسي من أطياف وأفكار، ولست نائماً فأغفل عن كل شيء وأغيب عن الوجود والشهود. جاءتني كوابيس، ورأيتني أجري أمام عدو جبار، أخذت أصرخ بصوت مكتوم، وأجري بأقدام رخوة ثقيلة، سمعني أولادي، على رغم بعد المسافة، بين الغرفتين، جاؤوني، فوجدوني أقول مطمئناً لهم ومطمئناً لنفسي: الحمد لله... الحمد لله. كان عندي دروسي في الجامعة الأميركية، قررتُ ألا أذهب إليها، ذهبتُ الى الجريدة، لا أدرك ما حولي، موغلاً في تفكير لا يقف على شيء، ولا يصل إلى شيء، ولا يكف عن شيء، لماذا لا نقاتل؟ لماذا لا أجرب أن ألقي على العدو حجراً؟ لماذا لا أجود بنفسي في سبيل ما أعتقد أنه الحق، لماذا لا أنزل إلى الشارع وأصرخ في الناس استحثهم على القتال؟ وأعدد، كم القينا من أحجار، كم قدمنا من شهداء، كم عقدنا من قمم عربية، كم أنفقنا على استيراد السلاح؟ المهم، هو من يدير المعركة. نحن حتى اليوم لم نعثر على من يقود نضالنا، وأذهب في التفكير كل مذهب، أحرك مؤشر الإذاعة، لعل حاكماً عربياً يقطع علاقته بإسرائيل، لعل حاكماً عربياً يعلق علاقته بأميركا. كل الأفكار النبيلة والمشاعر الصادقة حوّلتها الأنظمة إلى شعارات، وتاجرت بها، وابتذلتها، وأهانتها... هذا صحيح. ولكن صراخ محمد دره، والخوف الذي أطل من عينيه، والرعب الذي ملأ نفسه، والزلزال الذي دمّر أركانه، أعاد وضع الأمور في نصابها، هو حقاً صراع وجود وليس صرع حدود، هي حقاً فلسطين عربية إسلامية من النهر إلى البحر، هو حقاً الجهاد المقدس الذي يُحيي الشعوب، أو الاستسلام المهين الذي يقتلها وهي تتجرع كؤوس الهوان صباحاً ومساءً. ثق يا ولدي يا محمد - رحمك الله - أن دماءك صنعت مني إنساناً جديداً، ثق أن خوفك قتل الخوف في نفسي، ثق أن براءتك أزاحت الأطماع من قلبي، ثق أن مماتك أحياناً، وأن مرقدك سوف يبعثنا من مرقدنا. لم ينقطع مني حبل التفكير، إلا لحظات، عبرتُ خلالها الشارع إلى مكتبي في الجريدة، قصصت صورة محمد دره، وضعتها في برواز وعلقتها على جدار المكتب، وجلستُ واضعاً يدي على وجههي، ورأسي يتدلى خجلاً وعجزاً وضعفاً. رفعت سماعة الهاتف أطلب صديقاً ألتمس عنده بعض العزاء، يعيرني سمعه لأنفِّس ولأبوح ولأصب جام الغضب عليه وعلى نفسي وعلى كل حاكم ومحكوم عربي فردّ عليّ مدير مكتبه قائلاً: هو عندكم في الجريدة يشارك في ندوة عن العلاقات المصرية - الاميركية، ذهبت، جلست إلى جواره، سمعت المداخلة، يتقدم بها أنتوني كوردسمان يتحدث في غطرسة وتكبر: المشكلة بيننا وبين المصريين، أننا نتعامل مع العالم كما هو، أما المصريون فيتعاملون مع العالم كما ينبغي أن يكون. ويتحدث أميركي آخر بديبلوماسية لا تخلو من إسقاط واضح ونقد مبطن "نريد أن نساعد مصر في البنية التحتية، وفي بناء نظام قضائي مستقل، يضمن محاكمات عادلة ومفتوحة". نظرتُ حولي فوجدت الجو هادئاً، وعرفت أن العشاء سوف يكون في فندق ماريوت! ثق يا محمد درة إذا كنت قد ذهبت ضحية، فقد بقيت شعلة، وتاريخاً، وتقويماً، ومشروعاً، وخطّاً فاصلاً بين من يريد حياة العز، ومن يريد حياة العبودية حول موائد المفاوضات، وغداً سوف تتحرر بلادك من كل أنواع الاستعمار الأجنبي والمحلي على السواء! لقد أسست دماؤك الخطوط الفواصل بين عهدين، وبين تاريخين. فلن نقبل بعد اليوم ما كنا نقبله قبل استشهادك الفريد. ولن نرضخ بعد اليوم لما كنا نرضخ له قبل استشهادك. لقد فتحت لنا باب المراجعة، باب التوبة، باب العودة، باب الاعتراف بما أسلفنا. لقد فتحت منا عيوناً استحبت العمى. وهديت منا قلوباً استهواها الضلل. لقد أمسكنا بالمفتاح واهتدينا إلى الصواب... لتعد المبادرة مبادرة الشعوب، وليعد الخيار خيار الأحرار، لينزل الناس إلى الشوارع، وليغادروا محابسهم وزنازينهم في الشقق، ومرابطهم في أماكن العمل والمقاهي. وثق يا محمد أن الفوارق ليست شاسعة، فمن يترك بيته وينزل إلى الشارع الفلسطيني يجد في انتظاره رصاصة، ومن يغادر بيته، ينزل أي شارع عربي سوف يجد على قارعته زنزانة، ولستُ أقول هذا لأعفي نفسي ولأبرر تخاذلي، فكلنا أسارى، ولكننا مقيدون وكلنا في أقفاص، قد تضيق أو تتسع، ولكنها أقفاص! * كاتب مصري - سكرتير تحرير مجلة "السياسة الدولية".