يريد إيهود باراك تشكيل حكومة طوارئ، ويعتبر أن الزعيم الحالي ل"ليكود" آرييل شارون هو شريكه الطبيعي في ذلك. تواجه هذه الرغبة مقاومة من وزراء بارزين في حزب "العمل" شمعون بيريز، شلومو بن عامي، يوسي بيلين... ومن نواب كثيرين لا يريدون ل"الوقت المستقطع" في المفاوضات أن يتحول تعطيلاً نهائياً لها يسيء الى "سمعة" اسرائيل. وشارون نفسه متحمس مع بعض التردد. سبب الحماسة ان المشاركة هي جواز مرور الى منصب سياسي رفيع وزارة الدفاع مثلاً، الممنوعة عنه سابقاً لدوره في مجازر صبرا وشاتيلا. أما التردد فمبعثه شعوره بأزمة باراك ومطالبته إياه بأن يعيّنه شريكاً في رئاسة الحكومة وليس مجرد وزير لا يملك حق النقض. يخيّم شبح بنيامين نتانياهو على الاثنين معاً. فلقد شاء حظ الرجل أن تسمح له المحكمة بمعاودة العمل السياسي في وقت اندلاع المواجهات. وأدى ذلك الى ارتفاع مذهل في شعبيته تؤكده استطلاعات الرأي العام. وحصيلة ذلك أنه بات صاحب مصلحة في حل الكنيست لأن الانتخابات المبكرة تسمح له بالحلول، أولاً، محل شارون وثانياً محل باراك. ويلقى نتانياهو تأييد القسم الأكبر من نواب "ليكود" 10 من أصل 19، ما يعني أن شارون مكبل اليدين. ولذا يلجأ الأخير الى تصعيد يصل الى حد مطالبة باراك بتبني برنامج سياسي مخالف لذلك الذي أوصله الى موقعه. وبما أن رئيس الوزراء يظهر علامات ضعف حيال هذه المطالبة فقد سأله معلق اسرائيلي عن حاجته الى جنرال جديد، إذا كان قرر المواجهة، في حين تعج حكومته بالجنرالات. يريد إيهود باراك تشكيل حكومة طوارئ. يحاول التوجه الى حزب "شاس" لاستمالته. ويأتيه الرد سريعاً: لا وجود لحال طوارئ تستدعي حكومة من هذا النوع. لا يعني ذلك ان الحزب المذكور لا يؤيد المواجهة القاسية مع الفلسطينيين ولكنه يعني انه مهجوس بالحرب الأخرى التي أعلنها باراك تحت اسم "الثورة المدنية" وباشر في تنفيذها. يشترط ايلي يشاي وقف هذه الحرب من أجل فتح البحث مع باراك والتراجع، بالتالي، عن قرارات جرى اتخاذها تتعلق ب"الستاتوكو" الذي وضعه ديفيد بن غوريون للعلاقة بين الدولة والدين. وايلي يشاي مضطر، هو الآخر، الى مقدار من التشدد يسمح له بتطويق انصار ارييه درعي الذي يقضي عقوبة السجن بتهمة الفساد. ما إن يقترب باراك من "شاس" حتى يحرق يده. فشارون غير متحمس لذلك لأنه يعطل عليه بعض الدور الذي يطمح الى لعبه. ولكن المشكلة هي في التيار الصهيوني العلماني المتشدد ممثلاً بحزب "شينوي". فقادة هذا الحزب يعتبرون ان دفع المنطقة كلها الى حافة الحرب، عبر شارون، أهون من تهديد "الثورة المدنية" عبر اشراك "شاس" في الحكومة. ان رفضهم عطلة السبت الإلزامية أعلى مرتبة من رفضهم الوضع الذي وصلت اليه التسوية. ولكن يبقى أن حزب "ميريتس" هو الذي يعيش الحال الأصعب. فهو ميال الى استمرار المفاوضات ولكنه يعبر عن مأزق اليسار الصهيوني الذي اكتشف، فجأة، ان الفلسطينيين هم غير الفلسطينيين، أي أنهم أصحاب مطالب وأصحاب جرأة في المطالبة بها. وبما ان حزب ميريتس علماني مؤيد للتسوية فهو موزع بين شرين. ان انضمام شارون العلماني يهدد المفاوضات وانضمام "شاس" الأصولي يهدد العلمانية. وحتى لو أقدم يوسي ساريد على قرار صعب وارتضى أن يعود الى الحكومة مع "شاس" فليس مؤكداً أن الحاخام عوفاديا يوسف سيوافق على ذلك. فيوسف سبق له ان ضغط على باراك لإبعاد وزراء ميريتس، ولما تحقق له ذلك دفع وزراءه الى الاستقالة جاعلاً رئيس الوزراء يتمتع ب"أكثرية" نيابية تقل عن ربع الكنيست! والمعروف أن باراك كان فكّر، لمرة، بتشكيل حكومة أقلية تدعمها الأحزاب العربية من خارجها. وما إن استقرت الفكرة في رأسه حتى دفع رجال الشرطة لقتل المواطنين العرب في الدولة 13 شهيداً، ولحراسة عدوان بعض غلاة اليهود عليهم. والنتيجة الواضحة لذلك أن دعم النواب العرب لم يعد مضموناً حتى لو وسّع باراك حكومته في اتجاه "شاس". وهكذا يكون الرجل أضاع فرصة الكسب من اجراءات شكلية أقدم عليها، أو كان ينوي فعل ذلك، وهدفها امتصاص النقمة المتصاعدة في صفوف هذه الأقلية التي يتملكها شعور متزايد بأنها "أقلية قومية" وليست مجرد شريحة تعاني مقداراً من التمييز الاجتماعي ضدها. يشكو اليهود الروس، أيضاً، من تمييز. ولكن ذلك يدفع حزبيهم، كما بات واضحاً، الى يمين المشهد السياسي. لم يعد هؤلاء يشعرون ان المستوطنين ينافسونهم على أموال الدعم ولا يعيرون انتباهاً الى نفقات المتدينين. اكتشفوا ان المزاج العام يميل يميناً فمالوا معه معززين بذلك اتجاه المجتمع نحو التصلب ضد العرب. ولذا فإنهم حاضرون للانضمام الى حكومة طوارئ إذا جمع باراك المستحيلات معاً، أي إذا ارضى "ليكود" بتياراته والمتدينين بأطرافهم كلها. ولكن "الروس" يعرفون، أيضاً، أن انتخابات جديدة لا تهدد مواقعهم، لذا فهم لا يمانعون في حشر باراك ودفعه الى ارتضاء حل الكنيست. يحتاج المرء الى بوصلة من أجل عبور ادغال السياسة الداخلية الاسرائيلية، وهناك من قد يجد في ذلك تمريناً رفيعاً على الممارسة الديموقراطية. قد يكون هذا صحيحاً لولا تضافر عاملين. الأول هو أن اسرائيل تتصرف وكأنها قلعة محاصرة وأن الحصار يمتد من انبعاث اللاسامية في العالم الى حشد العراق جيشه على حدود الأردن وسورية! الثاني هو أن هذه التلاوين كلها لا تخفي أن اللون الغالب هو التشدد الأقصى الذي يوحي بأن حكومة الطوارئ متشكلة في الواقع ولا ينقصها إلاّ الاعلان عنها رسمياً. ولقد كانت هذه هي الحال على الدوام عندما يقود اليسار المواجهة مع العرب. وباراك لم يفعل شيئاً سوى اضافة لمسته على هذه اللوحة: مقدار كبير من الخلط بين تنفيذ عملية عسكرية ناجحة وقيادة عملية سياسية شديدة التعقيد. جوزف سماحة