أقام تجمّع "السنونو" الثقافي أخيراً مهرجانه الثقافي الرابع، الموسوم ب"مهرجان الثقافة العربية والدنماركية". وكان هذا التجمع، الذي يرأسه الشاعر العراقي المقيم في كوبنهاغن وحامل الجنسية الدنماركية منعم الفقير، قد تأسس في 1992. ومنذ البداية حدّد مسعاه في التقريب بين الثقافتين العربية والدنماركية وتعريف أدبائهما بعضهم الى بعض. وتتمثل إحدى وسائل هذا التقريب في عقد هذا المهرجان الثقافي الذي بفضله استطاع أكثر من ستين أديباً وفناناً عربياً أن يزوروا كوبنهاغن في السنوات الأخيرة، وأن يقدموا نماذج من أعمالهم الإبداعية، أدباً وفنّاً، أمام جمهور خليط من دنماركيين ومغتربين أو منفيين عرب، وكذلك أن يطّلعوا على أحدث نماذج الإبداع الدنماركي. جمعَ المهرجان هذه المرّة ما يزيد على عشرين فناناً وكاتباً عربياً، وكذلك ما يقاربهم من الدنماركيين، وبفضل مساهمة خاصة من وزارة الثقافة المصرية والخطوط الجوية المصرية، استطاع الأدباء والفنانون المصريون أن يشكلوا حضوراً لافتاً ومكثّفاً في المهرجان. فتمكّن الجمهور من التقاء الكتّاب إدوار الخرّاط واعتدال عثمان وسعيد الكفراوي والمخرج رضوان الكاشف وأعضاء فرقة "سداسيّ شرارة" الموسيقية. إلى هؤلاء، ضم المهرجان من لبنان الشعراء عباس بيضون وبسّام حجّار وعقل العويط. ومن المغرب صلاح الوديع ووفاء العمرانيّ وسهام بنشقرون وقد تخلّفت الأخيرة عن الحضور بسبب وعكة صحية فقرأ صلاح الوديع نماذج من شعرها كان ترجمها عن الفرنسية. ومن الجزائر ضمّ المهرجان حبيبة محمّدي، ومن العربية السعودية الكاتب أحمد أبو دهمان صاحب رواية "الحزام" والمقيم في باريس، ومن سورية سلوى النعيمي باريس ومن العراق جليل حيدر وعدنان الصائغ، وكلاهما يقيم في السويد، ومنعم الفقير الدنمارك وكاتب هذه السطور باريس، ومن فلسطين حسين شحاذة، المقيم في كوبنهاغن والذي ساهم في الترجمة بصورة فعّالة في أثناء الندوات الفكرية التي أقيمت الى جانب القراءات الشعرية. وإن اعترى خلل طفيف هذه الجلسة أو تلك، بسبب من صغر الفريق العامل على إدارة المهرجان، إلا أنّ قدر التفاهم بين الشعراء والمنظمين كان استثنائياً. وجاءت الجولات والزيارات لتُنعش اللقاء وتمكّن من التعرّف الى جوانب عدة من طبيعة البلاد. فزيارة البرلمان الدنماركي والعرض المسهب الذي استمع إليه الشعراء جعلت أكثر من كاتب وفنان عربي يأسف لتأخر دخول الديموقراطية دنيا العرب. وأتاحت مشاهدة تمثال "عروس البحر" المجال لتذوّق مشهد أخاذ حقق فيه الفنّ والطبيعة حواراً فذاً. ومكّنت زيارة قلعة هاملت من الدخول من جديد في أجواء التاريخ والتراجيديا. وبالمناسبة، ففي إحدى اللوحات المعلّقة فيها ترى الى شطيرة "ساندويتش" بالغة الشبه بشطائر "الهامبورغر" الحالية، مما دفع الدنماركيين الى الزعم بأنهم سبقوا الى ابتكار هذا النمط من الغذاء السريع بقرون عدة. ولئن كان معظم الشعراء المشاركين معروفين تبدو إعادة تقييم عطائهم الشعري في هذه العجالة نوعاً من الشطط، ولا سيما أنهم قرأوا صفحات من مجموعاتهم المنشورة، فإن عدداً من اللقاءات الدالة قد تخلّل هذا المهرجان برز في الشعر، أولاً، الحضور اللبناني المشكّل من عباس بيضون وبسام حجّار وعلي العويط، وهم جميعاً ممّن يهبون الشعر العربيّ الراهن صفحات جميلة، ومزيداً من التحرر من الأواليات الشكلية المألوفة وابتكار للصور اللافتة، واجتراح الدلالات الأكثر روحية أو جوّانية. هذه هي السمات التي تميّز، عموماً، هؤلاء الشعراء الذين يظل كلّ منهم محتفظاً، بالطبع، بلغته الشخصية ومسعاه الخاصّ. خط تلاقٍ آخر تمثّل في مشاركة شواعر كثيرات قاربن عالم الأنوثة كلاً بشاكلتها الخاصة، ولئن تركّز هذا البحث الشعري في مساءلة صميميّة للذات الأنثوية واحتفال بها في الغالب، فهو تميّز في قصائد سهام بنشقرون بالتفاتة عميقة الى الآخر منحتْها بنية أكثر حوارية. ومما أضاف على المهرجان صيغة التنوع أيضاً دعوة الكثيرين من كتّاب النثر الى قراءة صفحات من أعمالهم الروائية والقصصية كما يُقرأ الشعر. هكذا فعل الروائي والقاصّ المصريّ سعيد الكفراوي وعدد من القصّاصين والروائيين الدنماركيين. وكان منتظراً أن يرافقهم في ذلك الكاتب السعودي أحمد أبو دهمان، الذي حظيت روايته المكتوبة بالفرنسية "الحزام" باستقبال منقطع النظير ومستحق لدى النقّاد والقراء، إلا أنه آثر في اللحظة الأخيرة أن يقرأ نماذج من شعره، وفاجأ الجمهور! إذْ غنّى إحدى قصائده المكتوبة بالعامية غناء. رافق المهرجان عدد من الندوات الفكرية حول "التعاون المعلوماتي في خدمة الحوار الثقافي" وكذلك حول "العرب والغرب: تعاون ثقافي أم سوء فهم متبادل؟". وشارك في الندوات كلّ من إدوار الخرّاط وعبّاس بيضون وعدد من الكتاب والمفكرين الدنماركيين. وقد تعاطف الجمهور الى درجة بعيدة مع مقطوعات الفرقة الموسيقية المصرية، وهي مقطوعات عُرف بعضها باسم الليالي "ليالي القاهرة"، "ليالي لبنان"، إلخ. وتمثل لقاء فني مهم آخر في الحوار المفتوح الذي خاضه الحاضرون مع المخرج المصري الطليعي رضوان الكاشف بعد عرض فيلمه "عرق البلح". وكان هذا الفيلم فاز حتى الآن بست وعشرين جائزة دولية. وهو يصوّر بكثير من العمق والنباهة والبراعة التشكيلية، حياة قرية مصرية بعد رحيل رجالها، يحدوهم نداء الذهب والمكسب السريع، بعيداً منها. ويبقى الشعر الدنماركي - الذي لم يُتَح للمشاركين العرب التعرّف عليه مباشرة من على المنصّة، لأن قراءات الشعراء الدنماركيين لم تكن مصحوبة بترجمة عربية، في حين كانت القراءات العربية مشفوعة بترجمتها الى الدنماركية، لا شك إن عنصر الوقت هو ما يقف وراء ذلك، وهذا خلل نأمل من تجمّع "السنونو" تلافيه في المهرجانات المقبلة. ولكن أتيح للمدعوين العرب التعرّف على هذا الشعر عبر عدد من مجلة "السنونو" ضمّ ترجمات لشعراء مساهمين في المهرجان وآخرين غائبين عنه. وبالقدر الذي يمكن النفاذ فيه الى هذا الشعر انطلاقاً من هذه الترجمات، فهو يبدو متمحوراً حول نابضين اثنين: مُحاوَرة الطبيعة أولاً لكن من دون أن يفضي ذلك الى هذا التصعيد الميتافيزيقي وضربات الأعماق التي نجدها في "الهايكو" الياباني مثلاً، المعروف بانشغاله بالطبيعة هو أيضاً. كتبتْ أولريكه س. كبرنس: "الصمت والعتمة/ يحملان على/ راحتيهما الناعمتين/ رأسي./ أنصت الى همسة/ تجلب لي عبر الليل/ الهدوء./ ولا يجيب سوى طائر الظلام البريّ/ المنطفئ في عينيه/ الضوء". وهناك ثانياً الاحتفال بحياة يومية تبدو معاشة بلا عُقَد كثيرة. لكنْ إذا كان كل شيء في الدنمارك هو بمثل هذا الهدوء الذي نأمل أن يكون هدوءاً خدّاعاً، فكيف تفسر نسبة عمليات الانتحار في البلدان الاسكندنافية عموماً؟