الحديث مع الإذاعية وردة زامل المعروفة باسم "وردة صوت لبنان" يعيدنا الى زمن الأصالة حين كان العمل الإذاعي يستند الى المخزون الثقافي والعمل البحثي الجدي، وإلى منافسة الوقت لتقديم الخبر "الطازج" والصادق الى المستمع، ولو تحت أزيز الرصاص ووطأة القذائف. و"وردة" التي تفتحت موهبتها الاذاعية عام 1976 "مصادفة" واستمرت في رسالتها ب"الغلط" كما تقول، استطاعت على مدى أعوام أن تنشئ مدرسة في فن التقديم الإذاعي الراقي الذي بات عملة نادرة اليوم، مع طفرة الاذاعات الرخيصة والمذيعين والمذيعات أصحاب الأصوات الناشزة واللفظ الأعوج والبرامج السخيفة. انتقلت روز زامل من العمل في مجال التأمين الى الجلوس في المنزل او الملجأ، تمضي الوقت مع مجموعة من الزملاء المهندسين أو المحامين أو الأطباء الذين أبعدتهم الحرب قسراً عن أعمالهم، الى حين اجتمعت، مصادفة، في محل للألبسة في الأشرفية مع إيلي كريم وإيلي صليبي الإعلامي المعروف عبر تلفزيون لبنان، فطلبا منها العمل في إذاعة "صوت لبنان" في المديرية التجارية التي كانت تنشأ حديثاً. هكذا بدأت "وردة" عملها في نطاق الاعلانات، ومن دون مردود، طوال أربعة أشهر، فيما بيروت تُدمر والناس يتهجرون ويهربون. في هذه الظروف الكالحة اكتشفت انها تهوى العمل الاذاعي، وراحت بحبها لاكتشاف الجديد وبفضوليتها، تراقب صليبي الذي كان يقدم، الثامنة صباحاً، فقرة "موقف لحظة"، التي تتضمن مقالات صغيرة من اليوميات اللبنانية. "كانت كلمته حلوة وأسلوبه رناناً جميلاً، جعلني منجذبة الى العمل الاذاعي. ثم بدأ يقدم برامج بث مباشر ورحت أقدم إليه أفكاراً وأقترح عليه أسماء شخصيات يستقبلها، وأقص له الجرائد وأطلب له أغنيات. فطلع مرة على الهواء وحيا مساعدة المخرج وردة". وانتشر الاسم بين الزملاء في الاذاعة، وصارت "وردة" تشارك في برنامج حواري يعده صليبي، و"سرعان ما اكتشفت انني أحب هذا العمل، وثمة أمور دفينة في أعماق الانسان يكتشف كم يحبها مع الممارسة". وكان للمصادفة دورها الحاسم في انطلاقة "وردة" الجدية. كان ابراهيم الخوري مديراً للبرامج ونزل يشكو يوماً الى المدير التجاري إيلي صليبي من توقف برنامج "كوكتيل" بسبب خلافات قامت بين مقدميه الثلاثة. فاقترح على "وردة" استلامه، لكن الخوري رفض المغامرة مع "مبتدئة". وبناء على إصرار صليبي اختارت "وردة" بضع أغنيات ونزلت الى الاستديو، عند مخرج البرنامج طوني موراني الذي رفض التجاوب معها كونها لا خبرة لديها. وبعد أخذ ورد واتصالات بالجملة، قيل لها "جربي 10 دقائق، وإن لم تنجحي نوقفك". ومنذ 24 عاماً لم تُوقف "وردة" البتة، ولم تتوقف هي عن العمل في أحلك الظروف، وكم نامت ليالي في الاذاعة لإتمام عملها. بعد نجاحها الأول، تمرست "وردة" في البرامج الاذاعية الاجتماعية والثقافية، وأجرت "سكوبات" عدة، منها مقابلة مع الشاعر نزار قباني الذي التقته تحت القصف في شارع مار الياس. وأخرى مع السيدة فيروز. لكن المقابلات السياسية ظلت ممنوعة عنها، حتى العام 1989 "حين أجبرتنا الحرب على ملء الفراغات ولم يعد للممنوعات مكان". وبعد المقابلة السياسية الأولى التي أجرتها مع الرئيس حسين الحسيني، لا تزال تعد المقدمة الاذاعية الأولى في برنامجيها الاسبوعيين: "صالون السبت" و"المجالس بالأمانات"، وقد استلمت المديرية التجارية أيضاً محل إيلي صليبي. كثرة اللاءات تلقت "وردة" عرض عمل من إذاعة معروفة خارج لبنان، لكنها فضلت إكمال رسالتها في الوطن. ولم تتخل عنها في مقابل مبالغ طائلة. وعند سؤالها هل تشعر بنوع من الاجحاف الذي ألحقه بها العمل الاذاعي، أقله من حيث الشهرة السريعة التي يؤمنها التلفزيون؟ تجيب "وردة": "تلقيت عروضاً من التلفزيونات اللبنانية من دون استثناء، كان آخرها قبل عامين حين عرض عليّ أحدها مبلغ 25 ألف دولار شهرياً، وقبل يوم واحد من توقيع العقد اجتمعت مع صاحب المحطة الذي رحب بي. ولما وصلنا الى السقف المسموح به، من حيث الحريات والشخصيات المسموح باستضافتها، كثرت اللاءات، فاتخذت قراري بالرفض في اللحظة نفسها". وتضيف "وردة": "أفضل البقاء في مكان واحد أمارس فيه اقتناعاتي بحرية وديموقراطية، وإذاعة "صوت لبنان" تؤمن لي هذا المكان. لم يعطني العمل الاذاعي، ربما، الشهرة السريعة، لكنه منحني الرضى والقناعة. حتى اليوم يُستشهد بالكلام الذي يقوله ضيوفي في الأخبار التلفزيونية المحلية والفضائية، وهذا يعني أن دور الاذاعة ما زال قائماً، وتبقى هي الأسرع في تأمين الأخبار الآنية للناس". وتعتبر "وردة" ان من شروط نجاح البرنامج السياسي الاذاعي "امتلاك المقدم ملفه تماماً، وإحاطته بضيفه". وتضيف: "شخصياً أكتب كل شيء، لأنني أحترم المستمع، وقد يصيب الانسان فجوة في الذاكرة أو ينجرف في حديث ضيفه، وحين يكتب المقدم يعطي مادة إذاعية غنية". لم تتوان "وردة" عن استقبال "كل الناس" ومن مختلف الانتماءات والأطراف في عز الحرب اللبنانية، ما جعلها عرضة للتهديدات. وتخبر: "لدي سيارة "ميني" أحبها كثيراً، كنت أوقفها زمن الحرب أمام مبنى الاذاعة. وبعد استقبالي مرة على الهواء مباشرة الاستاذ شاكر أبو سليمان توفي الأسبوع الماضي والأمير فاروق أبي اللمع وسمحت لهما بالقول إن الجنرال ميشال عون يتهور في بعض مواقفه، لكنه رجل لبناني وطني، تلقيت هاتف تهديد إن أعدت بث الحلقة ليلاً كما هي العادة. لكن مدير الإذاعة الشيخ سيمون الخازن أصرّ على البث، وفيما الحلقة تذاع، سمعنا في المكاتب رصاصاً ينهمر بغزارة، ورأيت سيارتي مدروزة به، فيما أشخاص ينادونني باسمي، وقد ظنوا إني داخلها". حين يبرز الخطر ليس لدى "وردة" ممنوعات في برامجها، ولا تمارس الرقابة الذاتية إلا حين بروز خطر طائفي. "أنا ابنة عيتنيت في البقاع الغربي. لم يربني أهلي يوماً على التفريق بين مسلم ومسيحي. وأعطاني سهل البقاع آفاقاً واسعة وأحاسيس منفتحة، وإن حاول ضيفي الجنوح نحو الطائفية، أرده الى الإطار اللبناني". تقرأ "وردة صوت لبنان" كثيراً وكل شيء. "هذا ما يميزني عن سواي. أقرأ وأسطر وأقص وأقوم بزيارات للسياسيين والمسؤولين، أخبرهم بما يقوله الناس العاديون، والكلام الذي لا يوصله اليهم المستشارون عادة". تحمل "وردة" عتباً كبيراً على بعض الاذاعات "التي أسقطت نفسها بنفسها، لأنها لم تعرف كيف تحافظ على مستوى إذاعي معين. وهنا ألوم وزارة الإعلام لأن ليس لديها مخطط توجيهي ولا رقابة. ثمة إذاعات تعمل من دون رخصة وأخرى تحت الدرج، تحكي كل شيء وبلغة متدنية المستوى. هذه المحطات تؤثر سلباً في نوعية بث الاذاعات الأخرى، من هنا ضرورة الرقابة". جديد "وردة" اليوم فقرة إذاعية صباحية مدتها 5 دقائق تبث يومياً في النشرة الإخبارية الصباحية عنوانها: "مش كلنا ولاد بيروت"، ترتكز على الاتصال بشخصيات معروفة تتحدث عن مدينتها أو قريتها لتعريف الناس بالمناطق اللبنانية بطريقة سهلة ومحببة.