وإن بدت فكرة الاحتفال باليوم العالمي للإذاعة غريبة في عالمنا الحديث الذي يكاد ينسى الراديو، منحازًا الى الصورة المرئية التي غلبت المسموع، إلا أنها – الإذاعة – لاتزال تواكب التطورات التنكولوجية وهي التي رافقت البشر طوال قرن، هو القرن العشرون، قرن الحربين العالميتين، قرن المعسكرين، قرن الثورات التي قلبت المفاهيم والايديولوجيات وصنعت رموزها. وقد أخذ البث الإذاعي في الماضي الدور نفسه الذي تأخذه أي وسيلة أخرى جديدة من حيث تسلية الناس، فكانت تتجمع ملايين العائلات خلال الفترة من العشرينيات وحتى بداية الخمسينيات من القرن العشرين حول أجهزة المذياع، في كل ليلة، يستمعون إلى التمثيليات والبرامج المرحة الخفيفة وبرامج المنوعات والبث المباشر للحفلات الموسيقية، والعديد من البرامج المنوعة الأخرى، خصوصا تلك الفترة التي تكثر فيها نسبة "ربّات البيوت" اللاتي يستمعن إليها وهنّ يقمن بواجباتهن اليومية، إضافة إلى ارتفاع نسبة "الأميين" الذين يعتمدون على المادة المسموعة في الحصول على الأخبار والثقافة العامة، خصوصا في الوطن العربي، وكأي وسيلة أخرى يُكتب عنها فقبل قرن من الزمان كتبت الشاعرة الأمريكية جوزفين بريستون وصفًا قالت فيه إن قدرة الإذاعة على "تمكين فكرة من الطيران عبر الأثير في السماء" تمثل "عجيبة من عجائب الدنيا"، ولكن تغير العالم منذ ذلك الحين، إذ ظهرت تكنولوجيات جديدة وازدادت وسائل الاتصال عمقاً، وفي وقتنا الراهن حيث ننتقل إلى القرن الحادي والعشرين، لكن لا تزال استمرارية الإذاعة تلفت الأنظار، وبحسب اليونسكو يوجد الأن أكثر من 44 ألف محطة إذاعية في العالم، كما دخل الراديو أكثر من 75 في المئة من البيوت في الدول النامية، كما يصل الراديو إلي أكثر من 70 في المئة من سكان العالم عبر الهواتف المحمولة. لماذا اليوم العالمي للإذاعة؟ على رغم اعتراف "اليونسكو" بالإذاعة متأخرًا في وقت تتسيد في الصورة المرئية والإنترنت، إلا أن المديرة العامة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) إيرينا بوكوفا ترى ) إن الإذاعة لاتزال تمثل الخيار الأول بالنسبة للنساء والرجال فى شتى أنحاء العالم، كما تصفها ب"الصوت الإنساني" وتقول: " أن الإذاعة تمنح صوتا لمن لا صوت له وتساعد في تثقيف الأميين وتنقذ الأرواح في حالات الكوارث الطبيعية، وتعد قوة داعمة لحرية التعبير والتعددية، فإنها تمثل عنصرا أساسيا لبناء مجتمعات المعرفة الجامعة ولتعزيز الاحترام والتفاهم فيما بين البشر". وجاءت فكرة الاحتفال بهذا اليوم من قبل الأكاديمية الإسبانية للإذاعة وجرى تقديمها رسميًا من قبل الوفد الدائم لإسبانيا لدى اليونسكو في الدورة 187 للمجلس التنفيذي في شهر سبتمبر 2011، وبذلك تمت موافقة اليونسكو على اعتماد اليوم العالمي للإذاعة في 13 شباط (فبراير) من كل عام، ويرجع ذلك الاختيار إلى اليوم الذي بدأ فيه بث أول إذاعة للأمم المتحدة في عام 1946. أثير الإذاعة في العالم العربي تأخرت هذه الآلة المتكلمة حتى وطأت العالم العربي إذ عرفها الغربيون منذ عام 1909 فانتظرناها حتى عام 1920 حينها عرفنا البث الإذاعي وكان محصوراً في قلّة قليلة من البلدان، وكعادتها كانت مصر سباقة في مجال التطور الإذاعي فهي أول دولة عربية تبنت اختراع ماركوني وبدأت البث الإذاعي باللغة العربية عام 1920، عن طريق محطات إذاعية خاصة أو أهلية ذات طابع تجاري في الأساس وكان نطاق البث الجغرافي الخاص بكل منها محدوداً، و نافست بذلك المحطات الأجنبية حتى احتلت المرتبة الثالثة في العالم بين المحطات العالمية خصوصا بعد استحداثها برامج أجنبية توجهت إلى العالم الغربي وليس العربي فقط، وكانت محطة " صوت العرب المصرية من أهم المحطات التي استمع إليها العرب وكانت تتوجه برسائل سياسية معادية للاستعمار فنالت إعجاب الجميع في تلك الفترة. وقد عرفت كل من الجزائر والمغرب الإذاعة في عام 1925، ولكن لم تكن باللغة العربية فقط بل بالعربية للأهالي وبالفرنسية للمستعمرين والأسبانية وغيرهما، بينما دخل البث الإذاعي للبنان في عهد الإستعمار الفرنسي، وبعد الإستعانة بتكنولوجيا الغرب انطلقت "إذاعة الشرق" عام 1938 التي تحولت بعد الإستقلال إلى " إذاعة لبنان"، وكانت الإذاعة العربية الثانية بعد الإذاعة المصرية، وقد امتازت باعتمادها التكنولوجيا العالية والحفاظ على أصالة الفن اللبناني والعربي فكانت منصة لأغاني فيروز وصباح وزكي ناصيف ووديع الصافي الذين استعملوا استديوهات إذاعة لبنان لتسجيل أغانيهم، ونظراً للتأثر بالإستعمار الفرنسي والإنجليزي كان الراديو اللبناني هو العربي الوحيد الذي بث برامجه بلغات ست مختلفة العربية، الأرمنية، الإسبانية، البرتغالية، الفرنسية، الإنجليزية. وبعد حصول كافة الدول على استقلالها ورفع الحظر التكنولوجي عنها وتحديداً في السبعينيات انتقلت موجة المحطات والإذاعات المسموعة إلى جميع الدول العربية باستثناء السعودية حيث كان التطور الإذاعي فيها بطيئاً ولم يبدأ البث في المحافظات الشرقية والوسطى فيها إلا بحلول عام 1960، كذلك أبو ظبي وعمان وقطر فهي لم تعرف البث الإذاعي المحلي الأصلي إلا منذ مايقارب الربع قرن تقريباً. الإذاعات العربية مر الراديو مر بأوقات عصيبة هددت وجوده واستمراره مع ظهور وسائل إعلامية بعده واحدة تلو الأخرى، فانزوى في ركن صغير وقصرت موجاته بعد ان تغلبت عليه الصورة المرئية بظهور "التلفزيون"، فاصبح مرتبطًا بكبار السن، وظل يكافح باستماتة لكي يبقى ويستمر عقودا عديدة، حتى كُتبت له ولادة جديدة بفضل ثورات الإنترنت والاتصالات، فاستعاد قوته عبر البث على الإنترنت، فكان كارل مالامود انشئ أول محطة راديو إنترنت في التاريخ في عام 1993، وفي فبراير 1995، بدأت أول محطة إذاعية بثها على الإنترنت فقط لمدة أربع وعشرين ساعة، وهي محطة راديو هاجر/كوفمان Radio HK، وكانت تبث الموسيقى الخاصة بالفرق الموسيقية المستقلة، ثم توالت المحطات الإذاعة التقليدية في بث برامجها وفقراتها في نفس الوقت عبر مواقعها الخاصة على الإنترنت، حتى أصبح الآن بإمكان أي شخص في العالم أن يقيم محطة إذاعية خاصة به تبث أفكاره، وتعزز علاقاته بجمهوره ومحيطه الخارجي، ولم تعد إقامة المحطات الإذاعية قاصرة على الدول والحكومات. وبالمقارنة بالراديو التقليدي، لا يقتصر راديو الإنترنت على الصوت، حيث يمكن مصاحبة البث الإذاعي عبر الإنترنت بالصور أو الرسومات والنصوص أو الروابط، بالإضافة إلى "التفاعلية" مثل غرف الدردشة ولوحات الرسائل، ويتيح هذا التطور للمستمع أن يفعل أكثر من مجرد الاستماع، فمن الممكن أن يقوم المستمع الذي يستمع لإعلان عن طابعة أن يطلب شراء هذه الطابعة من خلال رابط على موقع هذه المحطة، وبذلك تصبح العلاقة بين المعلنين والمستهلكين أكثر تفاعلية وحميمية في محطات راديو الإنترنت.