كانت "عملية التسوية" دخلت غرفة العناية الفائقة منذ فترة ليست بالقصيرة قبل ان يتأكد موتها إكلينيكياً بعد ذلك. وكان واضحاً في ذهن عدد من المحللين المحترمين على الأقل، أن كل المحاولات التي تجري لإنقاذ تلك العملية من مصيرها المحتوم، وهو الموت، لن تفلح، وذلك لسبب بسيط، وهو أن هذه المحاولات لم تكن تتوجه مطلقاً لمعالجة نواحي الخلل الهيكلي الكامنة في صلبها منذ لحظة إنطلاقها. وسبق أن أشرت في مقال سابق الى أن الرغبة الملحة في الابقاء على "عملية التسوية" حية ولو بوسائل التنفس الاصطناعي، دفعت المعنيين باستمرارها بأي ثمن إلى تكريس معظم وقتهم وجهدهم لابتكار وسائل مختلفة لتجنب المعضلات بإخفائها أو بالتمويه عليها أو بالالتفاف حولها او بتأجيلها، وذلك بدلاً من مواجهتها وتفكيكها والإصرار على حلها وإزاحتها من الطريق أول بأول. ومع اقتراب ساعة الحسم لم يكن هناك بد من مواجهة الموقف والاعتراف بالحقيقة المرة، وهي ان المريض المستلقي في سرير داخل غرفة الانعاش قد مات فعلاً ولم يبق سوى دفن الجثة والسير في جنازته. وتعين الانتظار حتى تموز يوليو الماضي كي تحين ساعة الحسم في أعقاب موافقة ايهود باراك وياسر عرفات على المشاركة في مؤتمر قمة ثلاثي تحت رعاية الرئيس بيل كلينتون يعقد في منتجع كامب ديفيد. فقد ذهب الجميع الى هناك وهم يعلمون أن الوقت حان لكشف كل الأوراق واتخاذ القرارات الصعبة. وكان لافتاً ان يصرح باراك وهو في طريقه إلى كامب ديفيد بأنه جاء ليعرض على الفلسطينيين صفقة نهائية وأنه لن يقبل من الفلسطينيين هذه المرة بأقل من إقرار كتابي بأن الصراع انتهى وأنه لم يعد لديهم أي مطالب جديدة في مواجهة إسرائيل خارج نطاق تلك الصفقة. ويبدو أن باراك كان مقتنعاً فعلاً بأن قمة كامب ديفيد الثانية اصبحت هي الزمان والمكان المناسبين تماماً لإخراج مشهد الذروة في رواية الصراع الممتد على مدى قرن كامل، وأن الأوان حان كي يسدل الستار وينصرف الجميع عقب هذا المشهد الاخير. ولإضفاء الجو الدرامي اللائق بجلال المشهد التاريخي الفريد فرض كلينتون حول مكان القمة ستاراً حديدياً كي يتفرغ الجميع لإعداد التفاصيل وسد كل الثغرات. وفي سياق هذه الاجواء الدرامية تابعت الجماهير العربية اداء ياسر عرفات، والذي بدا لها محشوراً ومحاصراً بين مطرقة باراك وسندان كلينتون، على مدى خمسة عشر يوماً كاملة ظل خلالها مقطوع الصلة بالعالم وممنوعاً حتى من الاتصال بشركائه في التسوية وفي المصير. غير أن عرفات فاجأ الجميع بخروجه من تلك المصيدة المرعبة مرفوع الرأس بعد أن رفض التوقيع على صفقة اقل ما يقال فيها انها كانت بمثابة عقد إذعان، وأكبرت الجماهير الفلسطينية هذا الموقف الرافض وتوحّدت خلف قيادة عرفات الذي عاد ليصبح من جديد، للمرة الأولى منذ التوقيع على أوسلو، ناطقاً باسم كل الفلسطينيين وليس باسم احد فصائلهم فقط. وبصرف النظر عن تفاصيل ما دار في قمة كامب ديفيد، وهي غير معروفة بالكامل حتى الآن على رغم كل ما نشر حولها، إلا أن الجماهير الفلسطينية والعربية توقفت بما يشبه الذهول عند حقيقتين تحولتا من فرط وضوحهما الى يقين لا يحتمل الشك بعد هذه القمة، الحقيقة الأولى: ان اسرائيل لن تقبل بعودة السيادة الفلسطينية الكاملة على المسجد الأقصى مهما كانت الظروف، ويبدو أن هذه الحقيقة شكلت صدمة كبرى للكثيرين ممن كانوا يتصورون ان موقف اسرائيل المعلن من هذه القضية الحساسة هو مجرد موقف تفاوضي تكتيكي للمساومة والابتزاز وليس موقفاً نهائياً. والحقيقة الثانية أن الولاياتالمتحدة لن تمارس أي ضغط على اسرائيل لحملها على ما لا تريد قبوله، مهما بلغت درجة تعنت الموقف الإسرائيلي وغروره وخطورته حتى بالنسبة الى مصير عملية السلام نفسها. وعلى رغم ان هذه الحقيقة لم تفاجئ احداً، إلا أن البعض ظل يراهن على دور أميركي بنّاء في اللحظات الحاسمة حتى لا ينهار كل ما صنعته واشنطن على مدى سنوات طويلة. غير ان هذا الوهم بدا وكأنه يتبدد نهائياً في اعقاب كامب ديفيد، ولم يكن إلقاء كلينتون باللوم على عرفات واتهامه، ضمناً على الاقل، بالتسبب في إفشال قمة كامب ديفيد سوى تأكيد فج لهذه الحقيقة. على صعيد آخر، أكدت قمة كامب ديفيد الثانية أن مواقف اسرائيل النهائية بشأن قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود وغيرها تصب كلها في اتجاه قيام كيان فلسطيني مجرد من كل مقومات السيادة أو الاستقلال الحقيقي. ولهذا كله فقد بات في يقين الجماهير الفلسطينية والعربية ان عملية السلام على المسار الفلسطيني، وفقاً لمنهج أوسلو، وصلت الى نهايتها ولم يعد هناك من مناص سوى الاعتراف بموت هذا النهج والبحث عن نهج بديل. وفي هذا السياق تحديداً تجلت اهمية الإنجاز الذي حققته المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله. ففي الوقت الذي بدا فيه نهج التسوية، على طريقة أوسلو، غير قادر على أن يقدم للشعب الفلسطيني سوى الإحباط واليأس، برز نهج المقاومة، على طريقة حزب الله، باعتباره النهج البديل والوحيد القادر على استعادة الأمل والثقة بالنفس. وعلى خلفية هذا الوضع المتفجر جاءت زيارة شارون الاستفزازية للحرم القدسي الشريف لتشعل النار في الفتيل الواصل ببرميل البارود. وعندما عاد باراك من قمة كامب ديفيد خالي الوفاض كان من الواضح أن سياسته وصلت الى مأزق لا فكاك منه. فقبل الذهاب كان ائتلافه الحاكم قد انهار ولم يحل دون سقوط حكومته سوى عطلة الكنيست الصيفية، وبدأت الخيارات المتاحة أمامه تضيق، لكن خيار التسوية لم يكن سقط نهائياً بعد. ولو كان باراك توصل في كامب ديفيد الى تسوية متوازنة ومقبولة من الجانب الفلسطيني لكان في مقدوره طرح هذه التسوية على الشارع الإسرائيلي في انتخابات مبكرة، باعتبارها الخيار الوحيد المتاح والفاصل بين معسكر السلام الذي مثله هو ومعسكر الحرب الذي مثله شارون، والخروج فائزاً من هذه الانتخابات. لكن هذا الخيار تطلب خصائص قيادية افتقدها باراك هو الذي تعامل مع الموقف الصعب بمنطق القائد العسكري لمجموعة من القوات الخاصة وليس بمنطق رجل الدولة، خصوصاً ان هذا الموقف يحتاج الى زعيم سياسي وليس الى ضابط بدرجة رئيس وزراء. لذا لم يكن غريباً ان ترتبك خطوات باراك وتتعثر، فقد ذهب الى أبعد مما يحتمله تحالف حكومي لم يصمم أصلاً من اجل دفع وتنشيط العملية السلمية، لكنه لم يتقدم بما يكفي للوصول الى نقطة اللقاء الضرورية مع عرفات، فوقف في منتصف الطريق. ووسط هذا التخبط سقط باراك فريسة الابتزاز اليميني في إسرائيل، وبدأ يزايد هو الآخر الى درجة انه لم يكتف بالموافقة على زيارة شارون للحرم القدسي ولكنه أراد ايضاً ان يضع على الزيارة بصمته الخاصة، فأمر ثلاثة آلاف جندي من جيش "الدفاع" الإسرائيلي بمصاحبة شارون. وفهم الفلسطينيون رسالة باراك على وجهها الصحيح: الخضوع او السحق، وكان الرفض هو الرد والمقاومة هي الحل. وعندما حاول باراك ان يظهر تصميمه على كسر إرادة الشعب الفلسطيني باستخدام اكثر الوسائل عنفاً ووحشية فإنه لم ينجح إلا في اسقاط القناع من فوق وجه قبيح كانت عملية التسوية حاولت عبثاً ولكن باستماتة، ان تخفيه. وربما كان آخر ما يتوقعه، او حتى يتمناه، باراك ان يضبط متلبساً وهو يطلق بنفسه رصاصة الرحمة على "عملية التسوية" ويقطع أنابيب الأوكسجين التي تمد جسدها المسجى في غرفة العناية الفائقة منذ فترة طويلة، بأسباب البقاء على قيد الحياة. على الصعيد العربي بدت الأحداث وكأنها تندفع في اتجاه مختلف، فبعد مرحلة من العجز طالت أكثر مما ينبغي بدا خلالها العالم العربي وكأنه اصبح جثة هامدة، إذا بوحدة الشعب الفلسطيني وصموده وتصميمه على المقاومة مهما كان الثمن تعيد اليه النبض وتبعث فيه الحياة من جديد. وأمام روعة الصمود ووحشية القمع تحركت مشاعر الجماهير العربية من المحيط الى الخليج فعلاً تضامناً مع انتفاضة الأقصى لتصل الشرارة إلى عرب 4819. وأعادت هذه الأحداث كل الامور الى نصابها فجأة: فالطبيعة العنصرية الكامنة في صلب المشروع الصهيوني تطفو على السطح من جديد، ووحدة الشعور على مستوى الشارع العربي تطفو فوق حواجز التجزئة السياسية، والعالم الإسلامي يعود ليشكل من جديد عمقاً نضالياً للعالم العربي وبوضوح لم يسبق له مثيل. وباختصار عادت المفردات المعبرة عن حقائق الجغرافيا والتاريخ تفرض نفسها من جديد وتزيح مفردات اخرى مصطنعة أريد لها أن تحتل بالقوة حيزاً في حياتنا الثقافية والفكرية. فمفاهيم الوحدة والقومية العربية والمقاومة والاستقلال تعود لتصبح لها اليد الطولى مقارنة مع مفاهيم الشرق اوسطية والتطبيع والعولمة. غير أن ثورة الشارع العربي وضعت الحكومات العربية بدورها في مأزق. فهذه الحكومات ملتزمة اجمالاً امام شعوبها بتسوية تعيد كل الارض العربية المحتلة في عام 1967 بما فيها القدسالشرقية، في وقت بدا فيه واضحاً أن إسرائيل ليست مستعدة إطلاقاً لتسوية على هذا الأساس. وعندما اندلعت انتفاضة الأقصى رحبت بها الحكومات العربية ليس فقط باعتبارها نوعاً من المقاومة المشروعة وإنما ايضاً كوسيلة يمكن استثمارها للضغط من أجل زحزحة إسرائيل عن موقفها المتعنت. غير أن التصعيد الإسرائيلي الخطير، والذي وصل الى حد إعلان الحرب على السلطة الفلسطينية، وضع المنطقة في اجواء حرب حقيقية شاملة ومحتملة فعلاً في المنطقة كلها. وهكذا وجدت الحكومات العربية نفسها أمام مفترق طرق: فإما ان تقود هي غضب الشارع الثائر للسيطرة عليه وتوجيهه واستخدامه كعنصر ضاغط مع تحمل مخاطر دفع الامور في اتجاه الهاوية، وإما أن تتراجع وتتحمل المخاطر الناجمة عن انكشاف عجزها وزيادة الفجوة بين ما تستطيعه هي وما يطمح اليه رجل الشارع. واختارت الحكومات العربية أن تتراجع ولكن بخطى محسوبة، فبعد أن كانت مصر ومعها السلطة الفلسطينية مدعومة بدول عربية اخرى، تفرض شروطاً لقبول لقاء رباعي في شرم الشيخ عادت وقبلت انعقاد هذا اللقاء من دون شروط مسبقة تحت دعوى ضرورة إنقاذ الشعب الفلسطيني من الحصار والتدمير. وكما كان متوقعاً لم يكن بمقدور قمة شرم الشيخ في ظل الخلل الرهيب في موازين القوى بين الحكومات على الصعيدين الإقليمي والعالمي سوى ان تصل الى هدنة تنزع فتيل الأزمة موقتاً. وانطوى ذلك بالطبع على احتمالات تأثير سلبي على حيوية انتفاضة الشعب الفلسطيني ومقومات استمرارها، وكذلك على فحوى القرارات المتوقعة من القمة العربية. غير أن الازمة لم تحسم بعد، وستستحيل عودة الامور الى ما كانت عليه قبل انتفاضة الأقصى. فرفع الحصار موقتاً عن الشعب الفلسطيني يمكن أن يشكل مجرد هدنة قابلة للتوظيف ايضاً لمصلحة جولات جديدة او موجات جديدة من الانتفاضات المتعاقبة والتي لا يتعين أن تهدأ قبل انهاء الاحتلال الإسرائيلي لكل الاراضي المحتلة في 6719. ان عدم تعرض قمة شرم الشيخ لمستقبل التسوية يضع مسؤوليات أكبر على عاتق القمة العربية وليس العكس، والشعوب تنتظر لتحكم. * رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة القاهرة.