على رغم تحذير القيادة الفلسطينية الادارة الاميركية والحكومة الاسرائيلية، في محادثات قمة كامب ديفيد، من ان المسّ بالمسجد الاقصى، ولو بالكلام، يعني زرع رياح التطرف والعنف القومي والديني في المنطقة، ويهيئ المناخ لهبوب عواصف تطيح بعملية السلام وما نشأ عنها من علاقات سلمية بين اسرائيل والدول العربية كافة، الا ان الرئيس الاميركي ورئيس وزراء اسرائيل وأركانهما استهتروا بالتحذير الفلسطيني، وبرأي الزعماء العرب الذين انضموا الى هذا التحذير واكدوه. وظل كلينتون وباراك اسيرين، الاول، لفكر الدولة العظمى التي لا يعصى أحد أمرها، والثاني لعقلية المحتل الذي يحتقر من هم تحت الاحتلال. وبدلاً من قراءة مدلولات فشل قمة كامب ديفيد بصورة موضوعية، واصل رئيس الوزراء الاسرائيلي ووزير خارجيته بالوكالة حديثهما حول الحق التاريخي لليهود في منطقة الحرم القدسي الشريف، وهيّجا غرائز المتطرفين الاسرائيليين متدينين وعلمانيين، وفتحا باب المزايدات داخل المجتمع الاسرائيلي، ومضيا قدماً في استفزاز مشاعر الفلسطينيين والعرب، مسلمين ومسيحيين، تحت سمع وبصر حمائم حزب العمل وقوى السلام في اسرائيل. وتوّجا مواقفهما العنجهية والاستفزازية بتسهيل زيارة شارون لمنطقة الحرم القدسي لتحقيق اهداف سياسية وحزبية وشخصية، واستطلاع موقع لكنيس يهودي يدعو لبنائه فوق المصلى المرواني الذي أسماه "اصطبلات داوود". وأياً تكن اهداف هذه الزيارة الاستفزازية، فقد كانت شرارة كافية لتفجير موجة الغضب الشعبي الفلسطيني، واشعال انتفاضة الاقصى، وتحريك الشارع العربي المأزوم. وتفسيرات الثنائي باراك وبن عامي للزيارة ودفاعهما عنها وتوفير الحماية لها، لم تقنع أحداً، بما في ذلك اولبرايت، وأركان ادارة كلينتون المنحازين لاسرائيل بشكل أعمى فجّ. وكانت تبريراتهم لها بمثابة عذر أقبح من ذنب، لم تستطع تمويه اهداف تسهيلها. والقراءة الموضوعية لمواقف حكومة باراك، وسير المصادمات من اليوم الاول وحتى التاسع تؤكد وجود خطة مبيته لاستدراج القيادة الفلسطينية وتفجير الازمة الكامنة، واستخدم باراك شارون حصان طروادة لتثبيت توجهات سياسية وايديولوجية وتحقيق اهداف مباشرة اهمها: اولاً - محاولة فرض شروطه ومفهومه للتسوية النهائية بالقوة على الطرف الفلسطيني بعد فقدانه الامل بقدرة الادارة الاميركية، في نهاية عهدها، على تجريعها للفلسطينيين، ويأسه من اقناع عرفات، بالتي هي احسن، الحوار، التوصل الى اتفاق حول قضايا الحل النهائي، حسب ساعته الاسرائيلية الخاصة، يحقق انهاء النزاع الفلسطيني العربي - الاسرائيلي، ومكاسب كبيرة اخرى، يوظفها في معالجة ازمته الداخلية الخانقة، ويتوجه بها الى انتخابات برلمانية ورئاسية مبكرة مضمونة النتائج. وتوهم باراك واركانه ان ارتفاع نسبة الخسائر في صفوف الفلسطينيين ترعب القيادة الفلسطينية وتجبرها على توقيع الاتفاق. ثانياً - محاولة باراك تبرير موقفه امام ناخبيه واستبدال درب السلام والمفاوضات الذي التزم به امامهم بطريق القوة ولغة العنف، بأمل ضمان مستقبله السياسي بشطب فكرة تشكيل حكومة مصغرة تنهض بمتطلبات صنع السلام مع العرب بالاعتماد على اعضاء الكنيست العرب العشرة، وبدء مدّ جسور جديدة، على جثث الفلسطينيين، للعلاقة مع الاحزاب الدينية المتزمتة، ومع زعيم ليكود شارون، على طريق بناء تشكيل ائتلاف حكومي جديد مع اليمين يجنبه الذهاب الى انتخابات مبكرة، خاسرة حتماً. ومعرفة باراك الدقيقة بتاريخ شارون المدموغ بالانتهازية السياسية، وبتغليب مصالحه الشخصية على الحزبية، تشجعه على المضي قدماً بهذا التوجه، خصوصاً بعد تبرئة المدعي العام الاسرائيلي ساحة نتانياهو واعتزامه العودة الى منافسة شارون على زعامة حزب ليكود. ثالثاً - محاولة الثنائي باراك وبن عامي، احياء وتجديد موقع هيكل سليمان، على ابواب القرن الجديد، كركيزة نظرية اساسية في العقيدة الصهيونية لجذب اليهود، وليس لبنائه على الارض، بعد تآكلها في العقود الاخيرة من القرن العشرين. واذا كانت الاسابيع الثلاثة القادمة كفيلة بكشف حقيقة نيات باراك وأهدافه من تفجير معركة الحرم وتوقيتها، فالمؤكد ان انتفاضة الاقصى، وما رافقها من تفاعلات اقليمية ودولية، تمثل حداً فاصلاً بين نهاية مرحلة كانت واضحة المعالم، وبداية مرحلة جديدة شديدة التعقيد، بدأت بتهييج المشاعر الدينية في عموم ارجاء المنطقة، وسفك القوات الاسرائيلية، بقرار سياسي مبيّت، دماء اكثر من الفين من اطفال وشباب وشيوخ ونساء فلسطين في الضفة والقطاع. ومع سفكها فتح جرح الفلسطينيين العميق المزمن، في الجليل والمثلث والنقب "عرب اسرائيل". وانهارت الافكار والمشاريع الاسرائيلية والاميركية المتعلقة بحل مشكلة القدس، ودخلت قضية هذه المدينة في صلب المسار السوري في حال تجدد المفاوضات السورية - الاسرائيلية. وبات الافق القريب مقفلاً في وجه اي اتفاق سياسي. وفتحت ابواب المنطقة، من جديد، امام موجة قوية من العنف. ودخلت عملية السلام على المسار الفلسطيني في سبات عميق. واكدت لقاءات باريس وغياب اسرائيل عن لقاءات شرم الشيخ ان باراك غير ناضج لاستيعاب دروس الانتفاضة، التي يراها عرفات وكل ما رافقها من حركة عربية ودولية واسعة، منحة جاءته من الله، في أحلك الظروف، دفاعاً عن اولى القبلتين وثالث الحرمين. ونجاح باراك في إطالة عمر حكومته بتجديد تحالفه مع حزب شاس أو حزب ليكود، أو فشله في ذلك وذهابه الى انتخابات مبكرة، خياران كلاهما علقم في حلق عملية السلام، ويعززان الاستخلاص المذكور اعلاه، ويمددان سريان مفعوله سنتين اضافيتين بالحد الأدنى، فالذهاب الى الانتخابات المبكرة من دون اتفاق مع الفلسطينيين يؤدي الى فوز اليمين فيها، كما يؤكد اركان حزب العمل وكل الخبراء في الشؤون الاسرائيلية. وتشكيل حكومة وحدة وطنية يعني تفجير حزب العمل من داخله، وتراجع باراك عن الأفكار الأولية التي طرحها لحل مشكلة القدس التي رفضها الفلسطينيون في كامب ديفيد وبعده. والمضي في اجراءات توسيع البقع الاستيطانية داخل البلدة القديمة وخارجها، وتوسيع حدود بلدية القدس لتشمل مستوطنة جبعات زئيف قرب رام الله، ومستوطنة معاليه ادوميم المطلة على البحر الميت. الى ذلك بينت انتفاضة الأقصى لجميع القوى الاقليمية والدولية، انحطاط مواقف ادارة كلينتون كقوة عظمى وكراع لعملية السلام. وتراجع دورها دفعة واحدة، وهبط من مستوى البحث عن حل لمشكلة القدس وقضايا الحل النهائي الأخرى وتوقيع اتفاق في حديقة البيت الأبيض ينهي النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، الى مستوى البحث عن أماكن لجمع باراك وعرفات وترطيب الأجواء بينهما، وتجميد المصادمات ووقف اطلاق النار. وظهرت هذه الادارة، في نهاية عهدها، وكأن أقصى ما تطمح اليه إرضاء رئيس الحكومة الاسرائيلية وتقطيع الوقت وتمرير الانتخابات الاميركية من دون تشويش شرق أوسطي. واذا كانت حماقة باراك هيجت المشاعر الدينية، وفجرت انتفاضة الأقصى، فموقف ادارة الرئيس كلينتون السلبي من هذه الحركة الشعبية، وفاشية الجيش الاسرائيلي وسادية القيادة الاسرائيلية، كما ظهر في تصريحات عدد من المسؤولين الاميركيين في اجتماعات مجلس الأمن الدولي، عقّد الموقف، وأضعف دور الراعي الاميركي في معالجة الأزمة الجديدة، واكد للشارع العربي وللناس في الضفة والقطاع مضي ادارة كلينتون - روس - أولبرايت قدماً في دعم مواقف اسرائيل، وتوفير الغطاء الاميركي للقيادة الاسرائيلية للاستمرار في عملية القتل وتصعيد عمليات التنكيل، التي هزت مشاعر الانسانية في كل أنحاء الأرض باستثناء أركان النظام الرسمي العربي والاسلامي المرعوبين من عقاب الادارة الاميركية. وتسبّب رفض الوزيرة اولبرايت في اجتماعات باريس وشرم الشيخ، اقتراح عرفات المدعوم فرنسياً ومصرياً، بتشكيل لجنة تحقيق دولية، وتبنيها حلاً أمنياً وليس سياسياً، لانتفاضة الأقصى، بزيادة الطين بله، ولم يساهم في اطفاء النار المشتعلة في الضفة والقطاع، بل زودها بمقومات الاستمرار. حقاً، لقد ضيعت ادارة الرئيس كلينتون فرصة تحقيق تقدم نوعي على طريق السلام العربي - الاسرائيلي اكثر من مرة، وهدرت من عمر عملية صنع السلام على المسار الفلسطيني سنوات ثمينة وارتكبت بحقها جرائم كبيرة وصغيرة كثيرة، وبات غير مأسوف فلسطينياً وعربياً على رحيلها وهي تجرجر فشلها في صنع السلام في المنطقة. بعد قمة كامب ديفيد وقبل انتفاضة الأقصى قدّر بعض العرب والفلسطينيين في السلطة والمعارضة بأن عرفات سيفرط بالحقوق الفلسطينية وسيقدم التنازلات التي تطلبها الادارة الاميركية واسرائيل، وجاءت وقائع الحياة واكدت خطأ هذه التقديرات. واذا كانت قوى النظام السياسي الفلسطيني والعربي لم تتعود مراجعة مواقفها والاعتراف باخطائها، فالمصلحة الوطنية الفلسطينية والقومية المشتركة تفرض اعادة النظر في المواقف التي ثبت خطأها، والشروع برسم توجهات سياسية جديدة تقوم على اساس: ان لا أفق في هذه الفترة لاتفاق حول قضايا الحل النهائي، حتى لو تجددت المفاوضات، وهذا يكفي لتوحيد الصفوف في اطار انتفاضة الأقصى وتحويلها الى نمط حياة للشعب الفلسطيني وقيادته وقواه الوطنية. فقدر الفلسطينيين في مرحلة تخاذل النظام الرسمي العربي، والامم المتحدة، وانحطاط الفكر الانساني عند القوى الدولية المهيمنة، تقديم أرواح ودماء أطفالهم ضريبة لاسترداد ابسط حقوقهم الطبيعية والانسانية. واذا كان هذا الأمر قدراً لا مفر منه فتقليص نسبة الخسائر ضرورة وطنية وممكنة. * كاتب فلسطيني