خسرت إسرائيل معركة الرأي العام العالمي بامتياز في المواجهة الأخيرة مع الفلسطينيين، وهي ردت بإعادة تنظيم صفوفها، وشن حملة من الإعلام المضاد، أو المضلل، على الطريقة الشيوعية البائدة، ما يقتضي الحذر معه مرتين، أولاً حتى لا يصدق الشارع العربي ما يسمع، وثانياً للقيام بحملة إعلامية فلسطينية جديدة تفند سيل الأكاذيب من إسرائيل. كان رئيس الوزراء ايهود باراك في الطائرة عائداً من شرم الشيخ عندما سربت مصادره خبراً عن اتفاق أمني سري مع الفلسطينيين. واستطيع أن أقول، وقد تحدثت هاتفياً مع السيدين محمد دحلان وجبريل رجوب، رئيسي الأمن الوقائي في قطاع غزةوالضفة الغربية، ان لا اتفاق أمنياً سرياً أو علنياً مع الإسرائيليين من أي نوع. الفلسطينيون لم يعقدوا أصلاً أي اجتماع ثنائي مع الإسرائيليين، وإنما هم اجتمعوا مع المصريين، واجتمعوا مع الأميركيين، واجتمعوا مع المصريين والأميركيين في جلسة ثلاثية، ثم اجتمعوا مع الإسرائيليين بحضور المصريين والأميركيين. كيف يتوصل الفلسطينيون والإسرائيليون إلى اتفاق أمني سري مع إسرائيل، من دون اجتماع ثنائي، ومع وجود الشاهدين المصري والأميركي على سير الاجتماعات في شرم الشيخ؟ علم هذا عند باراك الذي ذهب إلى القمة وقد اقنع الرئيس كلينتون أن أبو عمار لا يريد وقف اطلاق النار، ولا يريد واشنطن راعية وحيدة لعملية السلام، بل إنه لا يريد حلاً نهائياً، وقد اطلق رجال حماس والجهاد الإسلامي من السجون بهدف تدمير العملية السلمية. ورد أبو عمار أنه يريد وقف إطلاق النار، ويسعى إلى حل سلمي وهو مستعد للعودة إلى التفاوض عليه فوراً، ويريد الولاياتالمتحدة راعية للعملية السلمية. أما رجال حماس والجهاد، فقد قال أبو عمار إن إسرائيل قصفت السجون، فخرجوا منها. كان الحديث كله في العلن، وأهم طلبات إسرائيل كان وقف أعمال العنف، وجمع السلاح من رجال تنظيم فتح، وإعادة رجال حماس والجهاد إلى السجون. وقال أبو عمار إن الفلسطينيين يتعرضون إلى عدوان عسكري واقتصادي يومي يجب أن يتوقف. وتحديداً، فقد كان رد الفلسطينيين انه يجب ايجاد حل سياسي لأعمال العنف، فالسلطة لا تستطيع أن تمنع الناس من أن تعبر عن رأيها في الاحتلال. أما سلاح التنظيم، فالسلطة ترى ان توزيع السلاح أو حجبه ممارسة سيادية، وهي تقرر من يحق له أن يحمل السلاح. كذلك فالافراج عن السجناء أو إعادة اعتقالهم ممارسة سيادية ترفض السلطة أن تتدخل إسرائيل بها. وعندما طالب الإسرائيليون بالشبان الذين قتلوا الجنديين الإسرائيليين، سأل الفلسطينيون أين سُجن المستوطنون الذين خطفوا مواطناً فلسطينياً إلى مستوطنة وقتلوه. اليوم، ومعلوماتي هي الصحيحة ومن المسؤولين الفلسطينيين مباشرة، هي ان موقف المؤسسة الأمنية الفلسطينية هو التالي: - منع اطلاق النار من المناطق "ألف"، أي الواقعة كلياً تحت اشراف السلطة الوطنية. - تجنب الاحتكاك على مداخل المدن، خصوصاً مع وجود قناصة إسرائيليين لا يترددون في قتل الأطفال. - منع قيام مظاهرات مدنية مسلحة في المناطق "ألف". أما مظاهرات المواطنين احتجاجاً على استمرار الاحتلال فالسلطة ترفض منعها. هذه هي الحقيقة، وكل ما عداها عن الموضوع دس إسرائيلي واضح الأهداف. وإذا كان الاسرائيليون لا يترددون في الكذب وهناك شهود عدول من مصر وأميركا، فلنا أن نتصور مدى كذبهم في الموضوع الآخر الذي انفجر فجأة وهو خلافة أبو عمار. كتبت يوم الأربعاء الماضي في هذه الزاوية ان الإعلام الإسرائيلي يرشح السيد مروان البرغوثي، الأمين العام لتنظيم فتح في الضفة الغربية، خلفاً للرئيس عرفات. ولا أزال أقرأ كل يوم خبراً أو أخباراً عن السيد البرغوثي أو غيره، حتى أن جريدة "الغارديان" الراقية عرضت الأسماء المطروحة وبعضها قديم مثل السيد محمود عباس أبو مازن والسيد أحمد قريع أبو العلاء والسيدين دحلان ورجوب، ثم الجديد مروان البرغوثي الذي نسمع أنه متحالف مع السيد رجوب. إسرائيل طرحت خلافة الرئيس عرفات مرة بحجة أن هناك من يريد قلبه داخل السلطة، مع وجود تمرد على سياسته، ومرة أخرى بحجة صحته. الحجتان كاذبتان، والصحف الإسرائيلية اعتبرت قول السيد البرغوثي ان الانتفاضة ستستمر "معارضة" مع أنه تنسيق أدوار مع "الختيار"، ولو طلب أبو عمار من مروان البرغوثي أن يذهب إلى بيته ولا يخرج حتى السنة 2010 لفعل. أما صحة أبو عمار فهي أفضل اليوم من أي وقت مضى منذ حادث الطائرة سنة 1992. وقضيت مع الرئيس الفلسطيني يوماً في دافوس في أواخر كانون الثاني يناير الماضي، بدأ بمقابلة مع السيدة مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية، في العاشرة صباحاً، ثم غداء، وبعده حفلة استقبال موضوعها "بيت لحم 2000"، ثم عشاء فلسطيني رسمي وبعده جلسة حتى الثانية صباحاً مع مؤيدي القضية الفلسطينية من أميركيين وأوروبيين وغيرهم. وتعبت وتعب "نبلاء" القضية، نبيل شعث ونبيل أبو ردينة ونبيل قسيس ونبيل رملاوي، فيما أبو عمار لا يزال يتحدث. في دافوس كانت شفة أبو عمار ترتجف، غير أن الرجفة، تلاشت عندما رأيته على مدى خمسة أيام في نيويورك الشهر الماضي، وبقيت أتابع عمله حتى الصباح في آخر أيام زيارته، وسافر في اليوم التالي إلى غزة، ورأس فوراً اجتماع المجلس المركزي، وألقى خطاباً طويلاً ثم استضاف الأعضاء على غداء. ونعرف أنه زار بعد ذلك دول العالم كله تقريباً، في جهد يعجز عنه الشباب. إذا كان من أحد سيطير قريباً فهو باراك، ولا أحد يراهن على بقائه في الحكم عندما تعود الكنيست إلى الانعقاد في 30 من هذا الشهر. أما أبو عمار فباقٍ على قلوبهم، وأحياناً على قلوبنا.