نختلف كثيراً مع القائلين بضرورة تركيز أعمال القمة العربية المزمع عقدها في القاهرة في الاسبوع الأخير من تشرين الأول اكتوبر الجاري على التسوية السلمية وحدها من دون غيرها من القضايا وذلك ليس تقليلاً لأهمية وسخونة الأحداث الأخيرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا انتقاصاً من جلال إنتفاضة الأقصى، ولكن خشية الوقوع العربي في فخ الأحادية الذي يخنق فضاء العمل العربي ويهدر قدرته على المناورة السياسية لمصلحة هذه الانتفاضة نفسها باعتبارها الهدف المحوري للقمة. ولا يمكن تبرير هذه "الأحادية" بالخوف من تفجر الاختلاف حول القضايا الأخرى، الأمر الذي يحول دون الإجماع حول الهدف المحوري لأن ذلك الخوف إنما ينطلق من تصور تشاؤمي للعقلية العربية يسميها بالأحادية والبدائية التي لا تمكنها سوى من التفكير البسيط ويعجزها عن صياغة الأنماط الفكرية المركبة بدرجة عالية من الكفاءة والتوافق، وهو تصور لا يمكن أن نعتمده أو ننطلق منه لأنه يرتب نتيجة لأزمة وهي أنه لا جدوى من إنعقاد القمة أساساً لأن الحاضرين فيها بسماتهم العقلية هذه لن يكونوا قادرين أصلاً على إنتاج صيغ سياسية أو إبداع حلول عملية قادرة على التعامل مع الأزمة التي تواجه التسوية السلمية المتعثرة لما تتسم به هذه من تعقيدات لا حدود لها تنبع جميعها من طبيعة الصراع ذاته والذي يعد واحداً من أبرز الصراعات تعقيداً في التاريخ الحديث والمعاصر لوقوعه على حدود وخطوط تماس وتقابل الكثير من مكونات الهوية التي تصوغ تعريف الأنا وتحدد موقعه من الآخر. فالصراع إذاً معقد، والتسوية السلمية بالغة التعقيد، والموقف الراهن فيها شديد الحساسية فلسطينياً وعربياً، والإطار الدولي المحيط به شديد السلبية، وهذه جميعها دوافع مقنعة للتركيز عليه وإيلائه الأهمية القصوى بكل تأكيد. ولكن التركيز لا يعني الأحادية بالضرورة اللهم إلا إذا كان المطلوب من القمة هو إعلان الحرب ومن ثم الاستعداد لها فلا صوت عندئذ يعلو على صوتها. ولكنه أمر في ما نعلم غير مطروح تماماً الآن على الأقل، إذ أن المطروح هو استخدام الأدوات السياسية والاقتصادية والإعلامية العربية المتاحة في الضغط على الموقف الإسرائيلي تفعيلاً لموارد القوة اللينة العربية في مواجهة موارد القوة الصلدة لدى إسرائيل ولمصلحة عملية السلام المتعثرة. وفي اعتقادنا فإن هذا التفعيل هو نفسه ما يتطلب رفض الأحادية ويفرض حضور قضايا أخرى تكون مجالاً لإعمال هذه الأدوات نفسها، وليكون تأثيرها الإيجابي غالباً في خدمة القضية المحورية بما تخلقه من مساحات للحركة وقدرات على المناورة والمساومة أمام القرار العربي الخاص بها. ذلك أننا من الذين يعتقدون أن الخطأ العربي الأكبر طيلة نصف القرن الماضي تمثل في رهن الفعل العربي النهضوي، والتنموي، والسياسي وليس العسكري أو الاستراتيجي فقط بالصراع مع إسرائيل، ومن ثم تجمد الفعل العربي عند اعتابها أو اتخذ اتجاهات تحرك كانت هي المؤشرة إليها في أفضل الأحوال إيجاباً وسلباً، سلاماً وحرباً، فبدت إسرائيل مع كل هذا وضد القصد، هي بوصلة اتجاه وضابط إيقاع التحرك العربي في معظم الأحوال حتى بالنسبة لأولئك الذين زايدوا على القضية الفلسطينية سواء بقصد أو عن غير قصد الأمر الذي جعل إسرائيل وكأنها نهاية التاريخ العربي، في الوقت الذي لم يكن فيه العرب سوى أحد انشغالاتها والذي رافقته انشغالات أخرى بالتطور السياسي، والإنجاز العلمي والتكنولوجي توطيناً للعلم والحرية معاً الأمر الذي مكنها من تحقيق اختراقات حضارية ومن ثم استراتيجية وعسكرية وضعها دوماً، وفي كل مراحل الصراع، موضع الهيمنة على مقدراته حتى أنها قد تمكنت في أصعب لحظاتها بعد حرب تشرين الأول اكتوبر المجيدة من أن تطفر بموقفها في الصراع، رغم الإنكسار الموقت، أكبر طفراتها بولوجها إلى العصر النووي الذي زاد من تحكمها في مساراته، نتيجة إدراكها الشامل لطبيعته، وقلل من قدرتنا على ذلك بفعل إدراكنا الأحادي، وهو وضع يجب تجاوزه من الآن، بل ومن هذه القمة نفسها والتي ستزيد قدرتها على التأثير في عملية السلام بعدم جعلها قضيتها الوحيدة. وبالطبع فإن المطلوب ليس هو التعددية المفرطة على النحو الذي كان مألوفاً وكانت تطرح في سياقه بنوداً كثيرة بشكل اعتيادي وشبه بيروقراطي ولكن المطلوب فقط هو استحضار قضية أخرى أو اثنتين تمثلان عمقاً للقرار العربي ومجالاً للمناورة به، وهنا يمكن اقتراح قضيتين رئيسيتين من منظور الواقع والمستقبل العربي إحداهما تتعلق بالمدى الزمني القصير مثل قضية الحصار الدولي على العراق والاخرى تتعلق بالمدى الوسيط مثل مشروع السوق العربية المشتركة، وهنا تجد القمة نفسها أمام ثلاث قضايا مهمة إحداها متفجرة وتتطلب حلاً سريعاً، والثانية تطرح نفسها بقوة ليس فقط بالنسبة الى الشعب العراقي المحاصر ولكن أيضاً وربما أكثر على الواقع العربي المأزوم والإرادة العربية الممزقة والتي لن تتكامل لا على مستوى الرمز، ولا على مستوى الفعل إلا بإنهاء الحصار على العراق، وإعادة إدماجه بروح تسامح أكبر، وبصيغة إبداعية في النسيج السياسي القومي من جديد من أجل لملمة أوراق وختم فصول هذا العقد الكئيب الذي بدأ بخطيئة العراق وحصاره ولن ينتهي إلا برفع هذا الحصار وإعادة إدماج هذا البلد العربي الرئيسي في كل تفاعلات المنطقة، أما الثالثة فتطرح نفسها على المستقبل العربي ودورها الحقيقي في مساندة القضية المتفجرة الآن في فلسطين هو الكشف والإعلان ان مجرى التاريخ العربي ما زال يتدفق وأنه لم يتجمد بعد عند اعتاب إسرائيل فالفعل العربي المستقل والحر المستقبلي هو أكبر ضمانة لإعادة بناء القدرة العربية في الزمن القادم ومن ثم القدرة على التأثير في التوازنات الإقليمية الراهنة والمستقبلية والأهم هو إقناع الآخرين بذلك لأن القدرة هذه، وإقناع الآخرين بها هي المحك الرئيسي لاكتساب المكانة والمهابة على الصعيد الدولي والاقليمي، إذ ليس أهون من أمة يستطيع خصمها نتيجة عجزها وجمودها، أن يتنبأ بما يمكن أن تفعله بعد عشر سنوات أو أكثر دونما خشية المفاجأة، والأسوأ أن ما يمكن التنبؤ به شديد الضآلة قليل الأهمية لا يخيف أحداً ولا يؤثر فيه لدرجة أنه لا يستحق مجرد الإكتراث به. وحسب هذا الفهم نتصور أن حضور هاتين القضيتين، وبخاصة الحصار على العراق يُعد أمراً لازماً للمناورة السياسية بقرارات القمة والتخلص من حال العجز العربي الراهن وهو ما سوف يسهم إيجاباً في تفعيل تأثيرات قرارات القمة الخاصة بالتسوية السلمية وانتفاضة الأقصى والتي يتوجب أن تأتي حاسمة بقدر ما هي معتدلة. والاعتدال يقتضي الإبقاء على خيار السلام قائماً، وأما الحسم فيتطلب وضع سلم تصاعدي لإجراءات عقابية ضد إسرائيل تعد المقاطعة الشاملة بدرجاتها الثلاث على نحو ما كان سائداً قبل مدريد هي سقفها الأعلى، وتجميد كل إجراءات التطبيع العربي هو سقفها الأدنى مروراً بإغلاق مكاتب التمثيل التجاري الإسرائيلي وطرد القائمين عليها وسحب نظرائهم العرب إن وجدوا من إسرائيل كإجراء متوسط، وأن يتحرك القرار العربي بين السقف الأدنى والأعلى حسب السلوك الإسرائيلي بإشادة ووضوح يقتضيان تحديداً مسبقاً من قبل القمة لدرجة عنفه أو انفلاته، والذي قد يتوقف عند المستوى الراهن من العنف والقمع ضد الفلسطينيين، أو قد ينخفض نوعاً بإيقاف مسلسل القتل الدائر الآن ولكن مع الإبقاء على حالة الجمود في عملية التسوية ومحاولة فرض حالة اللاسلم واللاحرب. أو وهو الاحتمال الأسوأ قد يرتفع الى مستوى أعلى بالتصعيد مع حزب الله والجماعات الفلسطينية في لبنان، أو مع حركتي حماس والجهاد الإسلاميتين في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية أو حتى ضد السلطة الفلسطينية نفسها، واما التصعيد ضد سورية فهو أمر آخر أخطر سوف يؤدي إذا ما حدث، وهو ليس بمستحيل كما يتصور البعض، إلى إمتداد ألسنة اللهب خارج الإطار وبعيداً عن توجهات القمة العربية وقراراتها في المرحلة الراهنة. وفي هذا السياق فإن هناك أمرين لا بد من مراعاتهما: الأول: هو مراعاة العرب غير المرتبطين مع إسرائيل باتفاقات سلام ملزمة قانونياً لحدود وهامش حرية الحركة لدى العرب الآخرين الملتزمين بمثل هذه الاتفاقات، والذي سيبقى محدوداً نوعاً ما قياساً على غير الملتزمين الذين تتوفر لهم قدرة أكبر على المقاطعة حتى سقوفها الأعلى من دون أن يبدو ذلك تخلياً عن هذه الاتفاقات أو معاهدات السلام ما يعطي إسرائيل المبرر السياسي أو القانوني للتصعيد في اتجاه حرب غير مقصودة وغير مخطط لها من قبل القمة على الأقل الآن، وهو أمر يدعوهم إلى إبداء نوع من التسامح مع سقوف التزامات الآخرين التي قد تكون منخفضة نسبياً. والثاني: هو عكس اتجاهات العلاقة بين الفعل ورد الفعل بين العرب وإسرائيل عن اتجاهاتها في قرارات قمة العام 1996، فبدلاً من الإنطلاق من وضع سكوني يفترض أن لا شيء عربياً الآن انتظاراً للفعل الإسرائيلي، يجب الانطلاق من موضع الفعل الأكثر ديناميكية، وهو ما يتطلب بدء العرب فور انفضاض القمة في تطبيق المستوى الأدنى من الإجراءات العقابية ثم انتظار السلوك أو رد الفعل الإسرائيلي الذي سوف يحدد الإجراء العربي التالي سواء بالتصعيد إلى المستوى الأعلى، أو بالإلغاء تماماً، وهكذا صعوداً وهبوطاً، في إجراءات المقاطعة بديناميكية واضحة ورشيدة ومحسوبة تضمن لقرارات القمة نوعاً من الحسم والتأثير من دون جور على فضيلتي المرونة والاعتدال لأنها تنطلق من على أرضية النكوص الإسرائيلي الفعلي عن السلام بل والشروع في العدوان. * كاتب مصري.