يقدم برنامج "نابستر" ومحاكمته نموذج نص الإنترنت، كأداة إعلام عام اتصالي ومعلوماتي، والأرجح أن الذُهْل Distraction هو أساس النص الإلكتروني ومعقد سطوته. وتعيد "نابستر" طرح المضمون Content، المتصل بقضايا الملكية الفكرية والحق في المعرفة وهيمنة الشركات، باعتباره بؤرة العمل في المعلوماتية. ربما بدا السؤال في عنوان المقال بديهياً أو مفرطاً في سذاجته. لكنه يحتاج فوراً الى بعض التعريف. ويختصر مصطلح B2B جملة Business -2- Business أي "من الأعمال الى الأعمال"، ولأن الرقم 2 له الإيقاع الصوتي الأنكلوفوني نفسه لحرف الجر to استبدل بهذا ذاك، وهو من مألوف ألسنية ما بعد الحداثة. ويطلق B2B على التعاقدات والمبادلات التجارية والمالية التي باتت تتم على نحو مباشر بين الشركات بفضل الإنترنت، مع تجاوز كل الوسطاء والعمليات والآليات الاقتصادية الوسيطة التي سادت طويلاً على التجارة التقليدية. وتعتبر B2B مركز الثقل في "الاقتصاد الجديد" e- economy وتشكّل نحو 80 في المئة من قيمته. ويختصر مصطلح P2P جملة Peer - to - Peer، وتعني "من صديق الى صديق"، وتشير الى التبادل الحر والمباشر للمعلومات وملفاتها، أي أنها تعطي هيئة المعلوماتية للاتصال بين البشر عبر الإنترنت. وتشتمل ملفات المعلومات ما يمكن تحويله الى اللغة الرقمية Digital لأجهزة الكومبيوتر. وأدت برامج مثل "نابستر" Napster و"جنوتيلا" Gnutella وشبكات المجموعات الطوعية مثل "الشبكة الحرة" Free Net وشبكة "الثقافة البديلة" Alternative Culture Net، إضافة الى برامج التشغيل المفتوحة المصدر مثل "لينوكس" Linux، أدت كلها الى رواج مصطلح P2P. ودأبت المعلوماتية على ترويج بضع دعاوى صارت تلهج بها ألسن وسائط الإعلام المختلفة كأنها حقائق أو بداهات. تتركز تلك الدعاوى الواعدة على عالم جديد، مفتوح وحر التبادل يفيض بالوفرة في المعلومات من كل نوع، وفيه تجتاز ارادة الأفراد الممتلكين المعلوماتية وسائطها وإعلامها واتصالها كل العوائق والموانع، خصوصاً الجغرافيا والزمن و... و... و...الخ. ولا يكف الإعلام عن رسم صورة أخّاذة لعالم كالسحر طوع الأصابع الناقرة على المفاتيح الإلكترونية والعيون المحلقة في شاشات الوميض. وتحققت تلك الوعود بقوة في B2B، فصار "الاقتصاد الجديد" القوة الممسكة بالاقتصاد ويسّر لأميركا معجزة نمو غير متوقف لا يكف عن الازدراء بمعطيات الاقتصاد التقليدي وقياساته. وفي التبادلات الأسطورية الأرقام بين الشركات، بدا العالم مفتوحاً تماماً والزمن بدءاً خالصاً، كأنه يوم خلق لا ينتهي أمام الاقتصاد الرقمي. وصارت صور المعلوماتيين الناجحين ايقونات العالم الجديد ورموز وعد ثرائه. يحث الإعلام الجمع حثاً على الأخذ بالمعلوماتية ثم ترسّم خطى "الأولين" أبداً، مثل جيري يانغ مؤسس "ياهوو"، وستيف كايس مؤسس "اي أو أل" وغيرهما. وصار بيل غيتس، مؤسس "مايكروسوفت" أسطورة اساطير العالم المبهر الآخذ، وبات العالم مأخوذاً به ومسحوراً. وعلى قول الأناس الفرنسي جان بودر يارد، فإن السلطة القوة والأخفى، أي الأقدر على تحقيق السيطرة والقمع، هي تلك التي تسلب الأدمغة والألباب سلباً ويصير ذلك مدخلاً لترويض الأجساد وأفعالها، وتذهب بها عن التفاعل النقدي مع واقعها. ويوافق الأناس الأميركي البروفسور ويليام بوغارد، من جامعة وايتمان في واشنطن، على قول بودريارد ويرى في الشبكة الدولية للكومبيوتر الأداة الأقوى لتحقيق الذُهْل Distraction الذي يجعل الفرد والجماعة كما سها عن واقعه وشرد لبّه عنه. ونموذج الذُهل هو الصور "المثالية" للصف المدرسي المطيع الهادئ الساكن، وللعمال الدائبين على عملهم من دون احتجاج، والجموع المجتمعة أعينها على شخص الزعيم الحاكم تهتف إذا أراد ثم تصيخ صامتة وتطيع بولاء مُذْعن مهما تقلّب عيشها ومهما بلغ التناقض بين وعود الحاكم وأفعاله. "نابستر": الذهل بوعد المشاركة والإتاحة ويشدد بوغارد على ازدواجية الذهل، فشرط السيطرة هو ذهل الفرد والجماعة عن وجود الذهل نفسه. وفي نَفَس تلك الثنية المعقّدة، تبدو قصة ظهور برنامج "نابستر" وذيوعه كأنها سير على خطى القصة المشهورة عن تأسيس مايكروسوفت. انقطع الشاب الذكي شوان فانينغ المزدري التعليم الجامعي، عن العالم في مكتب عمه لثلاثة أسابيع انغمس خلالها كلياً في كتابة برنامج نابستر. ولم يكن يملك سوى القليل من المال، ولم يلقم سوى أقل الطعام والشراب، لكنه أنجز برنامجاً هز أسس المعلوماتية ووعودها، مع احتمال تغيير البداهات الأساسية عن الأعمال والمضمون والثقافة في زمن الانترنت. ويشبه ذلك تماماً الكلام على ما فعله غيتس لدى إنجازه برنامج Dos الذي غيّر نوعياً في عالم المعلوماتية. ويشبه "نابستر" لوحة موزاييك، ولّف فيها فانينغ أجزاء من برامج مشهورة، مثل "نظام الدردشة الفوري" ونظام "مشاركة الملفات" File Sharing، وكلاهما من إنتاج "مايكروسوفت"، مع محركات بحث متعددة وبرنامج "يونيكس" Unix ل"التخاطب" بين خوادم Servers الإنترنت. والخيط المشترك الذي يصل بين تلك الأجزاء هي حدبها على شأني الاتصال المباشر المفتوح والتشارك الطوعي في المعلومات. وبذا بدا فانينغ مصدقاً تماماً لما روّجته شركات المعلوماتية نفسها عن القدرات الواعدة لبرامجها. فلكم أعلى الإعلام من شأن المشاركة في الملفات واعتبرها أداة دخول الأفراد الى الإتاحة والوفرة على الانترنت. وراجت "نابستر" كما لم تفعل شركة قبلها. فخلال عام واحد 1998 - 1999 بلغ عدد مشتركيها 25 مليون شخص، وساعدها بساطة البرنامج في الاستعمال على الرواج. وفي الوصف العام، لا تعدو "نابستر" كونها برنامج "بريد إلكتروني"، متصل مع خادم الشركة، يتبادل ملفات MP3 الموسيقية. وتلك هي عقدة العقد في هذا الأمر. وتشكل الموسيقى والأغاني إحدى أهم ركائز صناعة الترفيه Intertainment المهولة، وهي من أقوى أنواع المحتوى Content فيه. وتعمل ملفاتMP3 على "ترجمة" الموسيقى الى اللغة الرقمية، ثم تحوّلها ملفات إلكترونية عادية من النوع الشائع على الأجهزة. وتمكن 25 مليوناً من إنزال برنامج "نابستر" على أجهزتهم، والحصول على مدخل للاتصال مع مخازن ملفات MP3 المراكمة على خادم الشركة والاستماع الى أنواع الأغاني والموسيقى التي يرغبون فيها، تماماً كما يعد الإعلام المعلوماتي. وأثار الأمر رعب شركات الموسيقى العالمية، واهتماماً قلقاً من شركات المعلوماتية. وبوصف آخر، يكفي أن تشتري مرة واحدة وفي شكل شرعي تماماً، الأغاني والموسيقى لكي تتم المشاركة المفتوحة بها الى ما لا نهاية. ويحدث هذا فعلاً، على سبيل المثال، لدى شراء شريط فيديو أصلي قابل للمداولة بين الأصدقاء. لكن إكساب التداول طابعاً معلوماتياً هو ما أثار حفيظة شركات الموسيقى، إذ جعل أحد أركان محتوى صناعة الترفيه على مرمى أصابع جمهور الانترنت، وحرفياً. وهكذا تصل محاكمة "نابستر" الى مقولة متناقضة، إذا دِين فانينغ، فمعنى ذلك أن حقوق الملكية الفكرية للشركات العملاقة تخرج من مستوى البيع لتصل الى تحديد وجه الاستعمال. ويشبه ذلك أن تحدد شركات السيارات للشاري وجهة السير والطرق والركاب وعدد مرات الركوب وأوانه... الخ. وفي حال الإدانة، سيشبه جمهور 25 مليون "نابستري" شعباً مداناً في عالم الانترنت، ويزيد الأمر عن حال حصار العراق مثلاً، إذ إن سكان الانترنت هم نحو 700 مليون شخص، ويشبه "نابستر" نسبة ما تمثله الهند الى مجمل سكان الأرض. وفي المقابل، فإن فوز "نابستر" يعني إتاحة المضمون والمحتوى ورسم أفق أكثر عدالة وتحرراً في تبادل المعلومات على الانترنت، وهو ما ترفضه الشركات العملاقة، على رغم دوام ترويجها أساطير الوفرة والحرية والإتاحة في عالم الانترنت. كأنما للقول أما أنه الذهل والجمهور المروّض، وإما أنه استخدام القانون وأدواته والدخول الى القمع المباشر. ربما تذكر البعض، في ما أنف، نقاشات عن "منظمة التجارة العالمية" وشروطها ومسارات العولمة والاحتكار غير المعلن الذي تمارسه الدول الكبرى على علوم الذرة والجراثيم مثلاً، والعقاب المتنوّع لكل من يحاول كسر الاحتكار وما إليها. وتلك الأمور هي موضع لجدال عميم. أحمد مغربي [email protected]