لم تقتصر الحملة ضد قانونين يناقشهما الكونغرس حاضراً عن الإنترنت، على العالم الافتراضي. وسارت تظاهرات أمام الكونغرس، وفي مدن أميركية أخرى. ورفعت أيدٍ محتجة لافتات سوداً، في إشارة الى المصير القاتم الذي يتهدّد الإنترنت في حال إقرار الكونغرس قانونين يناقشهما راهناً عن الإنترنت. وأدى الضغط الشعبي إلى تبدّل في مواقف أعضاء الكونغرس، مثل روي بلانت، شاك غرازلي، أورين هاتش، جون بوزمان وماركو روبيو، وهم كانوا ممن سعوا لإقرار القانونين اللذين يحملان إسمي «بيبا» PIPA و «سوبا» SOPA. وأنحى أعضاء آخرون في الكونغرس باللائمة على السيناتور الديموقراطي هاري ريد، رئيس الغالبية في مجلس الشيوخ، في شأن تسريع إقرار هذين القانونين. وانحنى ريد أمام عاصفة الاحتجاج، مُقرّاً بضرورة إجراء تعديلات شاملة على هذين القانونين. في سياق متصل، وبأثر ضغوط متنوّعة، اعترف الناطق بلسان مجلس النواب جون بوهنر بغياب الإجماع حول القانونين اللذين قدّما بسرعة الى مجلس الكونغرس. وصرّح النائب الجمهوري توم بيرس، وهو رئيس لجنة السياسات للنواب الجمهوريين، بأنه لن يجري تحريك القانونين، بمعنى ان النقاش في شأنهما توقف في مجلس النواب. ويشي هذان التصريحان بفقدان قوة الدفع التي حازها القانونان، وقد دُفعا الى الكونغرس على يد السيناتور اليميني ماك ليهي في 12 أيار (مايو) الماضي، بدعم من شركات عملاقة في الموسيقى والسينما والتلفزة والأدوية وغيرها. لماذا هذه الحملة ضد القانونين؟ لماذا تبدو الولاياتالمتحدة وكأنها في قبضة حرب حولهما؟ حملت حروب اليونان، حيث مورست الديموقراطية ونُظّر لها تاريخياً، أسماء المدن والنساء والآلهة. قيل «حرب طروادة» و «معركة ممر الماراثون» و «حرب هيلين» وغيرها. وتحمل إحدى حروب القرن ال 21 على الإنترنت الإسمين المختصرين لقانونين تسعى الشركات العملاقة لفرضهما في حاضر الشبكة العنكبوتية ومستقبلها. يشار الى القانون الأول بإسم «بروتكت آي بي آكت» Protect IP Act (المعنى هو «حماية الملكية الفكرية»)، واختصاراً PIPA «بيبا»، لكنه يحمل إسماً أطول معناه «قانون حماية التهديدات الفعلية عبر الإنترنت للابتكار الاقتصادي، وسرقة الملكية الفكرية» Preventing Real Online Threats to Economic Creativity & Theft of Intellectual Property Act. ويُنظر حاضراً في مجلس الشيوخ. ويملك الثاني إسماً أشد اختصاراً «ستوب أون لاين بايرسي آكت» (المعنى هو «قانون وقف القرصنة عبر الإنترنت» Stop On Line Piracy Act، واختصاراً «سوبا» SOPA. الابتكار يصارع المُلكية الفكرية يأخذ المحتجون على القانونين أنهما يتشددان في شأن الملكية الفكرية، إلى حدّ يعطل الابتكار، إذ يطلب القانونان ألا يجري تداول أي محتوى، من دون موافقة الجهة التي تملكه، كما يريان في ذلك أساساً لوقف ظاهرة «القرصنة الإلكترونية». وأشار المحتجون الى أن هذه الصيغة الشديدة التعميم، التي لا تتضمن تمييزاً لا لأنواع التداول ولا لحدود الملكية، تضرّ بالإنترنت بقوة. وأوضحوا أن النصوص المتداولة على الإنترنت مترابطة (بفضل تقنية الإنترنت نفسها) ومتداخلة، ومتعددة الوسائط، ما يعني أنها بالضرورة تتضمن نسيجاً من مصادر شتى. ولأن نص القانونين فائق العمومية، فإنه شديد الشمول أيضاً. مثلاً، إذا أوردت صحيفة خبراً وضمّنته روابط إلكترونية مع مصادر، وهو أمر يجري على مدار الساعة، تستطيع جهات المصدر أن تقاضي الصحيفة. أكثر من ذلك، يفرض القانونان على أصحاب المواقع أن يوقفوا النصوص التي قد تتضمن مثل هذه التداخلات، تحت طائلة الملاحقة قضائياً. في منحى أكثر شدّة، يعطي القانونان للمدعي العام الأميركي الحق في ملاحقة المواقع التي قد تتضمن هذه التداخلات، سواء داخل أميركا أم خارجها، كما تعطيه الحق في إقفالها. ويكفي تذكّر أن أسماء النطاق العليا مثل «.كوم» و «.أورغ» و «.نت»، تُعطى من أميركا، تحديداً من هيئة «أيكان» التي تشرف على حركة الإنترنت كلها. ويعني ذلك أن المواقع التي تستخدم هذه النطاقات العالمية، تصبح عرضة للملاحقة قضائياً، لمجرد أن يظهر فيها نصٌ ما فيه إحالة إلكترونياً أو رابط رقمي، على أحد المصادر، من دون الحصول على موافقة مسبقة من هذا المصدر. ومن الواضح أن إقرار هذين القانونين، بهذه الصيغة، يجعل العمل بالنصوص الإلكترونية، والوسائط الرقمية كلها، شبه متعذّر كلياً. إنهما أضخم ضربة وجّهها التشدّد في الملكية الفكرية، للابتكار والإبداع على الإنترنت. لم تتردّد مؤسسة «صحافيون بلا حدود» Reporters without Borders، في ربط الحرب الافتراضية ضد تشريعين يعتزم الكونغرس إقرارهما في شأن الإنترنت، مع السياسة الدولية. وأوضح بيانها الذي أعلنت فيه مشاركتها في الحرب ضد تشريعي الكونغرس هذين، أن إقرار الولاياتالمتحدة قوانين متشدّدة في الملكية الفكرية، يهدّد بإسقاط صدقية أميركا في الدفاع عن الديموقراطية وحق الشعوب في الوصول الى الإنترنت، وهي أسباب استعملتها أميركا في تبرير تدخلها في غير دولة، وصولاً إلى التلويح بالقوة العسكرية. بديهي القول ان كلمات هذه المنظمة تحمل ظلالاً عن مواقف أميركية لم تتلاش من الذاكرة، في مصر وإيران وليبيا وسورية والصين وبورما وغيرها. لم تكن هذه الكلمات القوية من «منظمة صحافيون بلا حدود» سوى جزء هيّن من حرب «بيبا» PIPA و «سوبا» SOPA. لم تبدأ معركة الدفاع عن الحريات الإلكترونية في 18 كانون الثاني (يناير)، حين توقّفت مجموعة من المواقع الإلكترونية عن بث محتواها باللغة الإنكليزية عبر الإنترنت، تعبيراً عن احتجاجها على «بيبا» و «سوبا». ثمة صراع ضخم وطويل في هذا المجال، رافق مسار المعلوماتية نفسها. قبيل نهاية القرن الماضي، أصدر الناشط السياسي الأميركي المشهور رالف نادر بياناً بعنوان «أوقفوا مايكروسوفت»، ومهّد ذلك لانخراطه في الدفاع عن الحريات الرقمية، بل ساهم في تأسيس «منظمة الدفاع عن حقوق المواطن الإلكترونية». الديموقراطية المُهدّدة لم ينسْ الجمهور الإلكتروني عالمياً المعركة الضخمة التي خاضتها الشركات العملاقة ضد موقع «نابستر» Napster، الذي لم يفعل سوى أنه استعمل خاصية موجودة في برامج مايكروسوفت، تتيح مشاركة الملفات بين الجمهور، كي يتيح للأفراد تبادل الملفات المتنوّعة. وتذرّعت الشركات العملاقة في المعلوماتية والإعلام والترفيه (خصوصاً الموسيقى)، بأن الجمهور يتبادل ملفات رقمية فيها أغانٍ وموسيقى، كي تطلب من المحكمة الفيدرالية إغلاق موقع «نابستر» المفتوح. ونالت الشركات العملاقة ما أرادت، في تعبير آخر عن قوتها الهائلة في الولاياتالمتحدة. واستطراداً، فإن تمركز هذه القوة في يد قلّة من الشركات أمر أثار دوماً قلق المدافعين عن الديموقراطية ومساراتها. الأحرى أن حرب «سوبا» و «بيبا» أخرجت هذا الصراع الضخم إلى العلن، بمعنى أن الجمهور دُعيّ الى المشاركة فيه بصورة مباشرة. انخرطت آلاف المواقع المهمة في هذه المعركة، التي لم يشعر بها العالم العربي لأسباب شتى. وشاركت في هذه الحرب التي بلغت ذروتها في 18 كانون الثاني (يناير) الجاري، مواقع تعنى بحرية الصحافة عالمياً، ونشطاء الدفاع عن الحريات الفردية والشخصية على الإنترنت، وأنصار النُظُم المفتوحة المصدر وتطبيقاتها، والموسوعات الرقمية المفتوحة ومؤسسات الدفاع عن الحقوق الديموقراطية في العصر الإلكتروني (خصوصاً الحق في الوصول الى المعلومات)، ومحركات البحث المفتوحة وغيرها. لم تتحرك المعركة بين ليلة وضحاها، لكن وصول هذين القانونين الى مجلسي الكونغرس تمهيداً لإقرارهما، أشّر الى أن المسألة دخلت مرحلة أكثر حدّة وأشد توتراً. والأرجح ألا تنتهي المعركة مع حملة إسمها «انقطاع الضوء عن الإنترنت» Black Out the Internet، لأن المسألة تتعلّق بالشيء الأكثر أساسية للأجيال المعاصرة: حرية المعرفة والمعلومات في زمن المعلوماتية. [email protected]