إذا كان العصر يلغو حول "نهاية الإيديولوجيات"، فهو لا يقطع مع الطوبائيات. وكيف يمكن المجتمع أن يحيا من دون أحلام التغيير الكبرى؟ وبينما كانت تراهن الإيديولوجيا على عقلنة المستحيل وقابلية جذبه نحو أرض الواقع، فإن اليوطوبيا تراهن على استحالة المستحيل نفسه" فتتعامل معه كما هو حسب طبيعته الأصلية تلك، دون الطموح إلى إمكان تحققه. وهذا يعني أن المتغير الأهم في عقلانية العصر الإنساني الراهن، هو اليأس من المذهبيات المؤدلجة، والتعاطي مع الافتراضي باعتباره غير قابل للتحقق. حاولت مجلة "الفكر العربي المعاصر"، بناء محور أبحاث حول هذه الظاهرة تحت عنوان: "الطوبائية واستراتيجية المستقبل الماضي". على اعتبار أن الطوبائية، بديلاً راهناً عن الإيديولوجيا التقليدية إنما تكرر الأحلام الجماعية دائماً، وكأنها مستقبل مختلف، لكنها هذه المرة تقايض الممكن بالمستحيل نفسه، مع الفارق وهو تهميش الواقع، أي جعل الحاضر أو المستقبل ماضياً، سلفاً. يتابع مطاع صفدي، رئيس التحرير، مقاربته لظاهرة عودة الفلسفي السياسي، من خلال أطروحة "الهُويُّ النقدي والطوبائيات" في عرضه لموضوعة "نظرية إبطال الإنسان بين استبداد الدلالة واستحالة المعنى". وفي هذا الفصل يغدو الهويّ هو المختبر الأفضل لصراع المفاهيم التي قادت الأبنية الكليانية أو الإيديولوجيات المدعية للكمال الأرضي، والتكامل السياسي. فإن طريقة فهم الحضارة لثقافتها الذاتية، في عصر الحداثة الغربية أفرزت تعميمات تسويفية للكوني الإنساني، ثم راحت تدعيه هوية تخصُّها وحدها. فكيف والحال هذه يمكن فرز الفلسفي السياسي عن أسطرات الهوية، وهل هناك حقاً لحظة مدنيةٍ جدلية، قادرة على تنمية الهوى النقدي الذي تحتاجه استراتيجية التواصل العالمي، خارج تأحيدات الطوبائيات المفتعلة، عبر نماذج هالكة مهلكة للتصنيم الهووي السائد، على رغم كل ادعاءات الانفتاح الكوني تحت طائلة سلطان السوق وحده. ويعالج محمد سبيلا المغرب ما كان يعنيه بالضبط فيلسوف النقد الأول، كانط، من مفهوم الحداثة. ولعل هذا التصحيح يساهم كذلك في تبرئة الحداثة من تاريخ الطوبائيات التي احتكرتها واستغلتها. ويطرح حسن حنفي القاهرة فكرة حوار الثقافات بديلاً من صراع الحضارات، مبيناً أن تدشين هذا الحوار قد جاء على يد حضارة العرب والإسلام منذ قرون، وأنه لا يزال له دوره المفقود والمطلوب راهنياً. ومن هذه النقطة يحاول مصطفى كيلاني تونس، أن يراجع العلاقة الدقيقة الإشكالية بين الاجتهاد والتأويل في النص الديني للإسلام، كاشفاً عن أفق التعددية المختفي وراء واحدية الأصل. وتكتب باحثة جديدة من الجزائر هي تاجه بوحّجة بن علي دراسة تقنية دقيقة حول المفهوم الكوسمولوجي للحرية عند كانط، يمكن اعتبارها مبتكرة وواعدة. وكذلك يقدم المحور نصاً صعباً للفيلسوف كوجيف الذي أدخل فلسفة هيغل خلال ثلاثينات القرن الماضي إلى صميم جامعة السوربون، وتتلمذ على يديه صف كامل من الذين سيحتلون مقدمة المسرح الفلسفي الفرنسي، أواسط القرن. والنص يتصدى لعرض وشرح مكثف حول "جدلية السيد والعبد"، التي تؤلف عماد فلسفة التاريخ عند هيغل. وقد ترجمت النص، وفاء شعبان الجامعة اللبنانية. وهناك ترجمة أخرى لنص يراجع نظرية ماكس فيبر، صاحب الكشف الأهم في سوسيولوجيا الدين والمتعلق باستخدام أوالية التدين كطوبائية تغطي شبكية العلاقات الربحية بين الأفراد والجماعات. ويضم العدد الجديد أبحاثاً مهمة حول "الديموقراطية والعولمة، بين الإيديولوجيا والفلسفة" و"العدوانية والسلوك الاجتماعي"، وبحثين جديدين في النقد السيميائي الأدبي، حول "النص غير المكتمل" للناقدة أمينة غصن الجامعة الأميركية، بيروت، و"مفهوم المكان من أجل البحث عن فضاء الشكل في القصيدة العربية الحديثة، للباحثة داعتاب بلخير المغرب.