يشدّ القارئ إلى هذا الكتاب سببان: السبب الأول هو مؤلفاه الفيلسوف الفرنسي آلان باديو والسلوفيني سلافوي جيجك. أخذ الأول شهرته من تتلمذه على دروس آلتوسير، الذي كانت له شهرته الطاغية في ستينات وسبعينات القرن الماضي. وإضافة إلى شهرة استعارها أولاً من غيره، أعاد إنتاج شهرته حين تمرّد على أستاذه، وانتقل من «ستالينية مفترضة» إلى «ماوية ثورية»، ليست أقل افتراضاً، حيث أسّس حزباً يرغب في تغيير العالم، إلى أن تساقط جزء من وهمه، وانصرف إلى «الفلسفة البحتة» ومواضيع مختلفة: الشعر، المسرح، جماليات الحب... غير أن انصرافه إلى قضايا فلسفية، متعددة الأشكال، لم يمنع عنه شغف سياسي مستمر دفعه، لاحقاً، إلى عودة ملتبسة إلى الفيلسوف اليوناني القديم: أفلاطون. والفيلسوف السلوفيني، الذي وصفته صحيفة فرنسية بأنه «الأكثر غرابة بين الفلاسفة في عالم اليوم»، له خياره «الفكري» المتعدد العناصر، الذي يضم فلسفة هيغل وتعاليم فرويد ولاكان مع شغف بالسينما، ونشاط إعلامي، حمله على «توصيف الإيديولوجيا وشرحها» في فيلم وثائقي، قارن بين المقولة الإيديولوجية وتجسيداتها في العالم المعيش. أما السبب الثاني لجاذبية الكتاب فهو العنوان الصغير، الذي استقر تحت اسميّ المؤلفين، وهو «فلسفة من أجل الحاضر» أو «فلسفة للحاضر».والمنتظر من كتاب يسأل، فلسفياً، الحاضر ويتطلع إلى تغييره، التوقف أمام القضايا التي تسم راهناً يتداعى، بالغ الاضطراب، عناوينه الكبرى: انحلال السياسة، الجوع، المتاجرة بالإرهاب، والانزياح الثابت والمستمر من «المجتمع الإنساني الموحّد» إلى مجتمع مغاير فقير القيم، يميل إلى العنصرية والتعصّب الديني والشوفينية النزوعات الشعبوية التي تحض على الكراهية وعدم الاعتراف بالآخر... غير أن القارئ لن يجد هذه الظواهر إلا في كلمات سريعة، تمر من دون شرح أو إضاءة، أو «تتسلّل» إلى نسيج نظري، أو مفاهيمي مجرد، كما يقال، من دون أن تلامس من واقع البشرية المعيش شيئاً، كما لو كان الفيلسوف (باديو وجيجك معاً) مشغولاً «بالفلسفة النظرية»، التي تربأ بنفسها عن قضايا كبرى، تفقأ عين الإنسان يومياً، ليس آخرها احتقار «الكبار للصغار»، أو استقالة القوى الكبرى في العالم من مسؤولية مفترضة، مثل مواجهة الحروب وتحوّل المجازر إلى صورة أعلانية يومية... وواقع الأمر أن تحرّر باديو وجيجك من المعالجة الجدية لقضايا الحاضر، لا يستظهر فقط في معالجة ما تجب معالجته، بل يستبين أيضاً في النظر إلى معنى الفلسفة في ذاتها، التي كان لها دور في فكر كلاسيكي مضى: تأمين سعادة الإنسان والبحث عن بشرية سعيدة. والنتيجة أن باديو صرف جهداً في مقولات عامة مثل: ضرورة اختراع قضايا فلسفية جديدة، الموقف الفلسفي، السياق الفلسفي الذي يقضي بتحويل القضايا الجديدة إلى قضايا فلسفية، الخيار الفلسفي، ضرورات القرار... ومع أن ما يقول به، على المستوى النظري، يبدو صحيحاً، فإن الغائب الأكبر هو تعيين القضايا الإنسانية الحاضرة التي يجب تحويلها إلى قضايا فلسفية. ذلك أن كلمات الموقف والخيار والقرار قديمة ولا تنقصها العمومية، مرّ عليها الفرنسي جان بول سارتر بوضوح كبير، في زمانه، وتأملها عميقاً، وباقتصاد لغوي مسؤول، بول ريكور قبل وفاته القريبة. ولعل عجز باديو عن معالجة «الراهن فلسفياً»، هو ما دعاه إلى العودة إلى سقراط وهوميروس والإلياذة ومالارميه والسينمائي الياباني ميزو غوشي وفيلمه الشهير «العشّاق المصلوبون»، ودعاه أكثر إلى مداخلة نظرية مجردة طويلة عن معنى: الكوني والخاص، من دون أن ينزل من جماليات الشعر والسينما إلى عوالم القتل الجماعي، والعصبيات العنصرية المستعادة، وإخفاق الإنسانية في حماية الضعفاء،... والسؤال هو: هل الراهن هو التذكير بسقراط وهندسة أرخميدس أم رصد أسباب اندفاع البشرية إلى الظلامية والعنصرية وصعود «القادة الرعاع»؟ وإذا كانت هذه القضايا «كونية»، بلغة باديو، وتحتاج إلى «فكر جديد»، كما يقول، فما هو هذا الفكر الجديد ووجوهه؟ وهل الكوني الذي تسكنه «المفارقة» كوني فعلاً، أم أنه تمزّق ويتمزّق وراء «الحدود والحواجز» وفلسفة الفرق، التي تستأنف صليبية قديمة وترتد كثيراً إلى ما وراء «كبلنغ» والإيديولوجيات الاستعمارية الكلاسيكية. قام جيجك بإذابة السؤال في بلاغة نشيطة، تكاد أن تلغي دور الفلسفة، أو تحوّل «فلسفة الحاضر» إلى تصفية حسابات بين الفلاسفة. فهو يفترض أن المقاربة الفلسفية، إن كان فيها أبعاد أخلاقية، تنتهي كفلسفة وتصير صحافة مبتذلة. وإذا كان في هذا القول بعض الصحة، فما التصوّر الفلسفي للأخلاق؟ وهل الاقتراب من موضوع الأخلاق ينفي الفلسفة؟ ألا يتضمن عبث «الساسة الكبار» بالعالم بُعداً لا أخلاقياً؟ وإلى أي قدر تتحرر «تجارة السلاح» من المحاكمة الأخلاقية؟ الطريف أن جيجك يرى في موقف النازية من اليهود، كما تاريخ الستالينية، قضية فلسفية خالدة، لا تمسها الأخلاق ولا تمس الأخلاق. غير أن جيجك، وهو يتحرك بين القضية الفلسفية الحقيقية والقضية الفلسفية الزائفة، كما يقول، يتقدّم بملاحظتين أساسيتين، تمس أحدهما ما يدعوه «بسوء التفاهم الفلسفي»، مؤكداً أن كل فيلسوف يسيء فهم غيره، ما يجعل من «الحوار الفلسفي» أمراً مستحيلاً، وبخاصة في حالات الفلاسفة الأكثر شهرة فهو: «لم يطمئن هيغل إلى ما جاء به كانط، وأرسطو لم يفهم أفلاطون في شكل صحيح. وهايديغر لم يفهم أحداً على الإطلاق». إلى أن يطرح سؤالاً يظل معلقاً في الهواء: «كيف يلبي الفيلسوف مطلب الحوار...». تثير هذا الملاحظة اعتراضين: من أين يأتي التراكم الفلسفي إذا كان الحوار بين الفلاسفة أمراً مخيفاً، كما يقول؟ ولماذا اختيار تعبير «سوء الفهم»، أليس هذا «السوء» المفترض، يتضمن تمثلاً وتجاوزاً معاً؟ لا يكتفي جيجك بتحويل الفلسفة إلى جملة اجتهادات متجاورة، وهنا الملاحظة الثانية، بل ينزع عن كثير من الفلاسفة صدقيتهم، أو يشكّك بمواقفهم الفلسفية، مثل ريتشارد رورتي في نسبيته المتطرفة، وهابرماس ودريدا في مواقفهم الأخلاقية، بل أن هابرماس سلطوي أو قريب من مواقف السلطة، وكذلك حال مدرسة فرانكفورت التي شكّكت بإمكانية «مشروع تحرري إنساني». فإذا كان هؤلاء الفلاسفة الكبار لا يمكن الثقة بهم فما هو دور الفلسفة والفلاسفة؟ انتهى جيجك إلى الآتي: «أريد أن أنهي بملاحظة حول الدور المحتمل للفلسفة في مجتمعنا، هناك جملة من المواقف الفلسفية الزائفة: الكانتية الجديدة، ما بعد الحداثة، والأسوأ هو الإسقاط الأخلاقي الخارجي على الفلسفة... الذي هو أمر كارثي ... حال جاك دريدا، الذي يقف كلياً خارج الفلسفة حين يضع قائمة عن كوارث هذا العالم، ويحدّدها بعشرة. شيء لا يصدق، لم أصدق عيني وأنا أقرأ ما كتب». ما الذي لا يصدق في حديث دريدا؟ بالتأكيد كلامه عن العنصرية والشعبوية والكراهية. وقضية العمال المهاجرين! وغيرها من القضايا التي تحتشد بها الصحافة، بلغة جيجك. ربما تكون هذه القضايا، بالمعنى النظري العميق، ليست فلسفية، فهي قضايا اجتماعية، سياسية، أي زائفة فلسفياً. ولكن ما هي القضايا الفلسفية الحقيقية، التي «تغاير الليبرالي المبتذل، والشديد الابتذال»؟ الجواب لا وجود له، فالفيلسوف الغاضب، يوحي، في شكل إيقاعي، أن الستالينية والبربرية النازية مع اليهود تشكّلان قضيتين فلسفيتين لم يعثر الفلاسفة على جواب موائم لهما حتى اليوم، ولكن أليست هاتان القضيتان اجتماعيتين، سياسيتين، أي زائفتين فلسفياً، بلغة جيجك؟ تفضي جميع الملاحظات السابقة إلى سؤال أساسي: ما هي الفلسفة في دلالتها العامة؟ يعطي باديو التعريف التالي: «الفلسفة أولاً وقبل كل شيء اختراع قضايا جديدة. ولكن لماذا اختراع القضايا الجديدة إن كانت قائمة في عالم اليوم، مثل: موت عشرات الألوف من البشر في أفريقيا مثلاً؟ ولن يبتعد من التعريف الأول حين يقول: «إن مهمة الفلسفة الوحيدة أن تبيّن لنا ما يجب اختياره». وإجابة كهذه تصلح لجميع الأزمنة. لا يستطيع القارئ العاقل أن ينكر التراكم الفكري اللامع الذي أنتجه باديو من دون أن يقتنع، بالضرورة، أن التعريف الذي يقدمه لا يضيء قضايا الزمن الراهن. أما جيجك فله تعريفه الذي يلائم تصوره الانتقائي للعالم: «إن المشكلة التي نواجهها ليست الواقع الافتراضي، بل هي الواقع الافتراضي...» ويضيف: «في نظري، إن الواقع الافتراضي هو الذي يثير الفكر...»، من دون أن ينسى أن يشير إلى ما يدعوه «التجربة الأصلية»، ومن دون أن يحدّد دلالة التجربة ومرجع أصالتها. يصل القارئ الذي ينتظر جواباً عن عالم الآن، إلى إحدى النتيجتين: إما أن تكون الفلسفة الغربية قد قالت ما تريد عن عالمنا، منذ «سقوط جدار برلين»، وليس لديها ما تقوله الآن، أو أنها غدت اليوم عاجزة أمام واقع مضطرب، وصعب الأسئلة.