تتداول أحياناً في المجاميع الشعبية أسئلة تتعلق بأهمية الفلسفة على واقعنا، هذه الرؤية على سذاجةٍ تعتورها غير أن انتشارها يجعلنا أمام دفاعٍ عن الفلسفة، بوصفها النشاط العلمي الأكثر تماسّاً بالإنسان ووجوده. يمكن قراءة الحداثة كأثر من آثار الفلسفة، ذلك أن الفلسفة كانت هي محتوى الحداثة، فتلازم مسار الفلسفة بمسار الحداثة شديد الإلحاح، أو على حد وصف هيغل: «يستحيل التوصل إلى المفهوم الذي تدرك به الفلسفة ذاتها، خارج مفهوم الحداثة». بمعنى أن الحداثة بمواضيعها لم تكن مجرد نقْلة ضيقة للحياة، فالحداثة لم تكن نقلة تقنية، بل غدت «التقنية» – ذاتها - موضوعاً للحداثة، وصعوبة رصد ثمار معدودة لأثر الفلسفة على الواقع، يأتي من كون كل نظرية فلسفية مهمة أنتجت دينامية مختلفة للحياة، إذ يمكن الرجوع إلى النظريات الحديثة، وربطها بنتائجها، ومن ثم اعتبارها ضمن الآثار التي رسختها الطروحات الفلسفية وجادت بها على العالم، ويمكنني هنا التذكير بإسهامات فلسفية أساسية. من أبرز إسهامات الفلسفة أنها حوّلت الإنسان إلى موضوع للدراسة، وإذا كان «فوكو» كتب عن «كانط»: «ما كان يهم كانط هو الإصلاح الفكري والثقافي وتمكين جمهور المواطنين من قسط من الحرية يُسمح لهم بأن يفكروا بتلقائية»، فإن الفلسفة بالنسبة له لم تكن مجرد موضوع تأملي، خصوصاً إذا وافقنا «هيغل» بأن فلسفة كانط هي: «بؤرة العالم، ونوع من التأويل الذاتي له، وأن عصر الأنوار ينعكس في فلسفة كانط». صحيح أن الوعي الفلسفي بالحداثة تجلى بوضوح لدى «هيغل»، لكن ما يميز فلسفة «كانط» - بحسب فوكو - أنه وضع الإنسان «موضوعاً للدراسة»، كما أنه – وفق فوكو أيضاً - «أول فيلسوف يتخذ من عصره وحاضره موضوعاً للتفكير». أسهمت الفلسفة في ترسيخ مبدأ الذاتية، وهو مفهوم متعدد الدلالات، لكنه ارتبط فلسفياً بمفعولات النزعة الإنسانية، فهو بالمعنى العام يعني مركزية ومرجعية الذات الإنسانية، وحريتها وشفافيتها، ومبدأ الذاتية يضم وفق «هيغل» الحياة الدينية والدولة، والمجتمع، والعلم والأخلاق، والفن، كل تلك الفروع تبدو جميعها تجسيداً لمبدأ الذاتية. من إسهامات الفلسفة الأساسية أيضاً تدشين الفضاء العلماني، إذ يرى «لوك فيري» أن «كانط» هو الذي دشن فضاء الفكر العلماني في الغرب، ويكتب «هابرماس»: «إن فلسفة كانط كانت ضمن مخاض الحداثة، باعتبارها عصراً كان في طور الانفلات النهائي من كل الإيحاءات المعيارية لنماذج الماضي، وبصدد إعداد مشروعيته الخاصة واستمداد معياريته وضماناته الخاصة من ذاته، فتلك الانفلاتات والانبثاقات ولدت تمايزات واستقلالات على مستوى المؤسسات والبنيات الاجتماعية، وعلى مستوى الثقافة «علم، أخلاق، فن»، ما جعلها منطلق دينامية حداثة فكرية لم تتوقف عن التجدد حول قضايا التناهي، والعلمانية، والذاتية والعقل والنقد». كما أن الفلسفة نجحت بمهمة «نزع السحر عن العالم»، وهذه هي عبارة «ماكس فيبر»، طرحت الفلسفة الرؤى القديمة التي اعتمدها البشر وراثياً لتصوراتهم للعالم على أنها مشكلات فلسفية، وفي نظر «هابرماس» فإن هيغل: «أول من طرح مسألة قطيعة الحداثة مع الإيحاءات والإلهامات المعيارية للماضي التي هي غريبة عنها في صيغة مشكل فلسفي». إن مفعول الفلسفة يتطوّر تبعاً لتطوّر منابع الإشكاليات الفلسفية، وذلك بتغيّر العصر، كما أن «أثرها» لا يبدو واضحاً للعيان، وتحتاج إلى عبقرية تشبه عبقرية الفيلسوف الرياضي «فريجه»، الذي لم يحفل علماء عصره بما كتب، فكتب إلى ابنه يتوسله أن يحتفظ بهذه الوريقات، فسيأتي يوم ما من يرى فيها ما يفيد؛ وهو ما حصل فعلاً مع قراءة «براتراند رسل» لها، إن مفعولها يختلف عن المفاعيل الأخرى كالجهود السياسية، أو الأعمال الشعبية الأدبية من ناحية سرعة التأثير بل والتدمير. [email protected] @shoqiran