توزع المشهد الثقافي في المغرب اواخر الصيف على عدد من المحطات تقاطع فيها الوطني مع الدولي والفردي مع الجماعي. فمن مهرجانات صارت حاضرة بقوة في مثل هذا الوقت من كل سنة كمهرجان عتبات الذي يستضيف ادباء ومفكرين ومجموعات مسرحية وموسيقية عربية واوروبية في الدار البيضاء الى المهرجان العالمي للشعر الذي التأم للمرة الثانية وفي المدينة نفسها، ثم مهرجان السينما الافريقية في مدينة خريبكة، الى مبادرة مشتركة بين التشكيليين المغاربة والاسبان للفت النظر الى مأساة الهجرة السرية عبر مضيق جبل طارق في قوارب للموت. ومن اجل الدعوة الى إقامة حوار مشترك عبر اطلاق قوارب الحياة. هذا إضافة الى اطلاق اسماء ادبية، وعودة مأساة سجن تازمامارت الى الظهور عبر رواية الطاهر بنجلون. فالطاهر بنجلون لم يعد الى المشهد الثقافي هذه المرة بإصدار رواية وحسب، بل وبإثارة نقاش وحفيظة عدد من الجهات التي رأت في تجربته الروائية إذ يصدر رواية جديدة تستوحي معاناة سجن تازمامارت العسكري في المغرب كما في تجربته الحياتية إذ اتهمته خادمته في المنزل في فرنسا بسوء المعاملة والاستعباد مساً بصورة ناشئة عن العهد الجديد في المغرب، وبقيمٍ ثقافية لطالما دافع عنها نظرياً كحقوق الانسان وكرامته... بل وبصورته منادياً بالمحافظة على حقوق التأليف إذ استغل موضوعاً كتب فيه عدد من الذين نجوا من معتقل الموت كمحمد الرايس مذكرات عرفت انتشاراً واسعاً قبل عام في المغرب. وتعود اسباب الواقعة الى تسخير الطاهر بنجلون لخادمة ترعى شؤون منزله وتعتني بابنه المريض في فرنسا. اصطحبها صيف 1999 من طنجة غير انها لم تفلح في تدبير مسؤولياتها تلك مما دفع ببنجلون الى الاستغناء عنها... وكان للجوئها الى احد مراكز "لجنة محاربة الاستعباد الجديد" لطلب رخصة إقامة دائمة في فرنسا ان صار مادة إعلامية ترافقت مع انتهاء الكاتب من عمله الجديد "هذا الغياب المعمى" او "اهل الكهف"، الامر الذي فسره الكاتب بوجود ارادة سياسية خفية تعمل من الرباط وتسعى الى عرقلة صدور الرواية، إضافة الى وجود إرادة اخرى فرنسية عنصرية. غير ان الموضوع لم ينته هنا. فقد اخذ ابعاداً اخرى عندما دعى ينجلون التعرف على معاناة السجناء من احد الناجين، الذي اعجب بصموده في الاعتقال: واستلهم قصته ليكتبها رواية تثمن الانسانية. والحال ان عدداً من الناجين لم ترقهم مبادرة الكاتب التي أتت متأخرة. بل واعتبروها تتاجر بمأساتهم وذكرى لأموات تازماماوت. وإلا كيف صمت بنجلون الى حد الآن ولم يكلف نفسه طيلة سنوات وهو المقيم في فرنسا حتى إشارة واحدة الى الموت اليومي الذي كانوا يعانونه! شأنه في ذلك شأن كل مثقفي المغرب! ولكن فضلاً عن الويلات التي قد يقدمها الطاهر بنجلون عن الضجة المثارة ضده: من السياسي المغربي الذي يسعى الى محو ماضيه السيئ الذكر، ومن العنصري الفرنسي الذي صار علامة في فضح سياساته وطرقه، الا يمكن القول إنها "ضجة" مبكرة لتسويق الرواية حتى قبل ميعاد صدورها بكثير! طيلة عقود مضت، اكتفت وزارة الشؤون الثقافية في المغرب بوضع المتفرج على قطاع الكتاب، وبعدم المشاركة في مجال النشر، او في حصر الاهتمام بالاسماء المكرسة لديها فقط ضمن رؤية تقليدية للعمل الثقافي لا تعالج غير بعض الموضوعات التاريخية والرسمية، كما كانت عليها سياسة سجلتها "المناهل" الصادرة منذ اربع وعشرين سنة. وإعلاناً منها لبداية موسمها الثقافي اصدرت ضمن منشورات الوزارة مجموعة ثانية من سلسلة كتب كانت خصصت عندما نشرت العددين الاولين السنة الماضية لإطلاق مؤلفات لاسماء جديدة لم يسبق لها ان دخلت عالم نشر الكتاب في المغرب. وعنيت السلسلة - في مسعى واضح للخروج من إسار النظرة التي طوقت عمل وزارة الشؤون الثقافية - بنشر مجموعات شعرية وقصصية ونصوص. هذه للمرة: لمحمد الصالحي الذي سمى ديوانه الاول احفر بئراً في سمائي" مختبراً إمكاناته في كتابة قصيدة نثر مشعة كفكرة بسيطة قوية الدلالات، حتى وهي لم تتقن بعد محو نموذجها الشعري الذي تستوحيه من ذاكرة الشعر العربي المعاصر. في نص "رثاء" كتب: أصحيح أنني / أجفف وجه الوقت / بثوب... ولرجاء الطالبي التي دفعت بمجموعة نصوص تحت عنوان "شموس الهاوية" تفتح من طريق السرد على لغة شعرية حافلة بتوليفات رمزية تقوّل علاقة الذات باللغة وبالعالم وهي تلتبس بالأحاسيس البسيطة والعميقة في آن. "حينما يشح الكلام، ويداهم الروح صمت من ثلج وصخر، حينما تموت الكلمة بين شفتيك وانت في حقل الصمم البكم الذين لا يفقهون من تراتيل الروح غير الضباب، ينتصب الصمت كمدرعة ثقيلة تحمي عالماً بأكمله من الانهيار، نفر حتماً الى ممالكنا الداخلية، نعمدها بمياه الروح حتى لا تجف وتموت...". ولمحمد المزديوي: اصدرت المنشورات مجموعته القصصية الاولى: "غرق القبيلة" وقد بنيت معظم قصصها على الثلاثية التقليدية بداية ووسط ونهاية. وانتهت جميعها الى الخيبة والحسرة. تلتقط القصة عند المزديوي علامات الواقع او تستعيد تخيلات لحظة تاريخية لتستغل ايحاءاتها الرمزية... كما تعمد الى استعمال موضوع الهجرة من البوادي الى المدن ومن الوطن الى الخارج اوروبا. وقد عرفت شواطئ المضيق حيث تكثر مغامرات الهجرة السرية الى اوروبا في قوارب صغيرة ومكتظة تعبر ليلاً الى الضفة الشمالية اقرب الحدود الساحلية بين المغرب واسبانيا قوارب الموت، في هذا الصيف مزيد من الموتى المغاربة والافارقة الذين كانت تحدوهم احلام الهجرة ولو بأفدح الاثمان... وعما تمثله هذه القوارب في هجرة الموت نظمت مبادرة انسانية بمشاركة تشكيليين مغاربة من بينهم عبدالله الحريري: ربيع، بوشتى الحياني، وعبدالكريم الوزاني... واسبان كماريا كارسيا روندو سميت ب "قوارب الحياة"، اريد بها رد الاعتبار للانسان اولاً: في حقه في الحياة وفي الهجرة. ولرمزية المبادرة قدمت اعمال تشكيلية على الواح القوارب، التي انتقلت من المغرب الى اسبانيا للعرض، وقد تباينت في تمثلها لموضوع الهجرة لاختلاف مرجعيات كل تشكيلي، ولتعدد اتجاهاتهم بين التجريد والتبسيط وبين المتمثل لخطاب مجتمعي يسعى الى تجسيده من هذه الاعمال فاز مركب عبدالباسط بندحمان الذي زاوج بين لعبة الطفولة في اعداد المراكب بالورق وبين كتابة تشكيلية سوداء، تتخللها عبارة مراكب الحياة.