حين عبرتُ، برفقة صديق لي، شارع سان جرمان دي بريه الطويل، للتوجّه نحو مكتب الروائي المغربي الطاهر بنجلون لإجراء حوار معه بمناسبة فوزه بجائزة الأركانة لهذه السنة، وهي يمنحها بيت الشعر المغربي، كنا - صديقي وأنا - نناقش مُسلسل «الجماعة» الذي غزا كل الفضائيات وتداعياته، والجدل الذي أثاره بين مؤيد ومعارض. وصلنا إلى العنوان، ودلفنا إلى العمارة قبل الموعد بدقيقتين، ثم خرجنا إلى الشارع مجدداً وواصلنا الحديث قبل أن يُطالعنا الكاتب بلحيته البيضاء ومشيته الهادئة ونظرته المتطلّعة الفاحصة. صَعَدْنا الدرج نحو مكتبه وكنا لا نزال نتناقش حول الموضوع ذاته مع استطرادات حول العنف والإرهاب والأصولية فبادر بنجلون إلى التعليق - جواباً على سؤال مُفترض - بأنّ الإسلام دين كبير وبريء من كل مظاهر الجهل والتجهيل، بل إن الحضارة الإسلامية كانت منبع الثقافات المشجعة على الانفتاح وقبول الآخر.. وإذا كان هناك من تراجع للثقافة في العالم العربي اليوم – يضيف بنجلون قبل أن يفتح باب المكتب الذي تتراكم في جنباته الكتب والجرائد، فإنما بسبب الحالة السياسية المزرية في العالم العربي. مكتب بنجلون يعوم في فوضى الكتب، لأنه يعيش فترة الانتقال إلى مكتب آخر. كنا وجدْنا أنفسنا بعيدين من الأدب والشعر قريبين من السياسة، لذلك فإن أول سؤال خطر ببالي كان عن نية الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي التّنكيل بالمهاجرين من أصول عربية، بحيث طغى على وسائل الإعلام والنقاش العمومي تفاصيل القانون الجديد الذي قد يسمح بنزع الجنسية عن المهاجرين، وحين سألت الطاهر بنجلون عن الأمر أجاب: « منذ زمن بعيد، والهجرة تُستعمل في الحملات الانتخابية. ولطالما اتّخذ اليميني جان ماري لوبين من هذا الموضوع وقوداً لناره. الآن، نرى أن حكومة الرئيس نيكولا ساركوزي تُحاول استغلال الأمر وتهيئ العقول والناخبين للّعب بالقضية وتحميل المهاجرين المسؤولية عن كل المشاكل. لقد أصبح المهاجرون أكباش فداء، والطامة الكبرى أن السّاسة المتعصبين يخلطون بشكل مقصود بين المهاجرين وأبنائهم وهم الذين يُعتبرون فرنسيين حقيقيين. أبناء المهاجرين فرنسيون من دون نقاش. والمهاجرون عموماً يُؤدون ضرائبهم ويَبْنون البلد، وكلّ مسّ بكرامتهم هو عمل دنيء. أعتقد أن على الحكومات المغاربية أن تحتجّ على هذه السلوكات الانتهازية التي تمسّ مواطنين ذوي أصول مغاربية، لا ينبغي السكوت على هذا الأمر.» هذا يقودنا إلى سؤال الهوية ربما، لأن الأمر لا يتعلّق فقط باعتبار واحد، بل باعتبارات متداخلة بين الاقتصادي والسياسي والفكري؟ - هناك موقف واضح وبسيط جداً، أنا عربي، ومغربي. أما الجنسية فأمر آخر مختلف. أكتبُ بالفرنسية لأنني بدأتُ الكتابة بها منذ زمن وأرتاح فيها، كانت فرنسيتي منذ البداية، في المدرسة، جيدة وتطغى على عربيتي، فوجّهتُ جهودي لتحسين اللغة الفرنسية. قال لي والدي مرة في ذلك الزمن، إن العربية ملك لك، وعليك امتلاك لغات أخرى. هكذا سعيتُ إلى التفوق في الفرنسية لأنها شدّتني إليها وأغْرتني، وبدلاً من أن أكون متوسّطاً في اللغتين، فضّلتُ أن أكون جيداً في اللغة الفرنسية. العربية لغة عظيمة، لكنني لن أستطيع الكتابة بها كي لا أشوهّها. أما إذا كانت هوية الكاتب هي لغته فأنا كاتب فرنسي. انطلاقاً من الموضوع ذاته، يبدو أن تيمة العنصرية لا تزال حاضرة بقوة، بل يمكن القول إنها أصبحتْ أكثر إلحاحاً من قبل؟ - في السنة الماضية،أعدتُ طبع كتابي حول «العنصرية وكيف أشرحها لابنتي»، وأضفتُ إليه مئة صفحة تقريباً، وذلك لأن الأمور تغيّرتْ من 1997 حتى الآن. لقد أصبح المجتمع الفرنسي للأسف أكثر عنصرية، وأصبح الجميع يصرّحُ بأمور خبيثة ضد العرب. الآن لم تعد الألسنة مربوطة كما في السابق بل خرجت من جحورها في شكل مقيت. أصبحت الكرامة الإنسانية مُهانة، والغريب أن هؤلاء العنصريين، يجدون صوراً ومشاهد تعبّر عن عنصريتهم من دون أن يكونوا تحت طائلة القانون. الكِتاب بهذا المعنى، راهن جداً ومطلوب، وناجح في السوق، ويُدرَّسُ في العديد من المدارس. لكن للأسف، لم يتم تدريسه بعد في المدارس المغربية، وأنا أتساءل عن السبب الذي يمنع ذلك حتى الآن!! لقد أضفتُ إلى الكتاب فصلاً عن العنصرية في المغرب. المغاربة، يعتقدون دائماً بأن العنصري هو الآخر، لكن الكثير من تصرفات بعضهم تصبّ في الاتجاه نفسه، سوف نكتشف بأن المغربي قد يكون عنصرياً ضد السود القادمين من بلدان إفريقية أخرى، وأحياناً ضد الأجانب أياً كانوا، إلى غير ذلك.. فنظرة المغربي ليست جيدة دائماً إلى الآخر مع أن البلاد تستقبل السياح، والعديد من الأجانب يعيشون في المغرب إلا أن هذا الموضوع غير محسوم حتى في المغرب. دعني أسألك عن الشعر، مادام هو الذي يوحّدُ الناس. فقد ورد في تقرير جائزة الأركانة، التي يمنحها بيت الشعر في المغرب، وحصلتَ عليها هذه السنة، بأنّك بدأتَ بالشعر، من دون أن تتنكّر له، أي مكانة يَحتلّها الشعر في داخلك إلى جانب اهتمامك بالسرد؟ - لا أستطيع أن أصف نفسي بصفة الشاعر، أترك الآخرين ليحكموا. أنا أكتب فقط. كانت انطلاقتي الأولى في الكتابة هي القصيدة، وقد مررتُ في محنة اعتقال بالسجن العسكري بأهرمومو بين سنتي 1966 و1968، وكانت مرحلة عذاب نفسي فظيع تساءلتُ خلالها إذا كنتُ سأعيش. ولهذا كان لا بد من أن أترك بصمة ما. جاءني الشعر جراء أزمة جعلتني أُعبّر عن دواخلي، ولولا تلك الأزمة، لما كتبت. لم يأت الشعر من تجربة السعادة والرفاهية، وأعتقدُ أن أغلب الشعراء الكبار كتبوا بعد معاناة ومأساة. أنظر إلى تجربة محمود درويش العظيمة، أليست نتاج معاناة؟ لقد ساهمت المعاناة في تعميق موهبته وشحذها، ولعلّ اهتمامه وتأثره بالقضية الفلسطينية أهمّ الأمور التي أثّرتْ في مساره كشاعر. بعد هذه التجربة السّجنية، إذن، وبعد كتابة القصائد، أصبحتْ لدي حكايات أحكيها، فكتبتُ من دون أن أفكّر يوماً بأن الكتابة ستكون مهنتي الأساسية. سأقول أيضاً بأنّ روايتي الأولى «حرودة» كانت رواية تَتَمَثّلُ الشعر، كموقف ورؤيا وإحساس. على هذا الأساس، ومع هذا الارتباط بالشعر، لا شك في أنك تفكّر في إصدار مجموعة جديدة؟ - أحياناً أحسّ بأن الشعر يدقّ بابي. وأحياناً أشعر بأني لا أقوى على كتابة الشعر أوالرواية، لكن دعني أقول لك أن الكتابة هي عمل يومي ينبغي للكاتب تدبّره ومن دون انقطاع. لا أؤمن بالكتابة العفوية، إعادة الكتابة هي المسألة، الجميع اليوم يحكي، وللجميع حكاية، لكن إلى أي حدّ تصبح كتابة؟ أنا عضو في جائزة رفيعة، وتصلنا كل سنة مئات الروايات التي نقرأها ونرى كيف أن الجميع يحكي بلا انقطاع، ولهذا فمهمتنا صعبة إذ لابد أن نكتشف النصوص الرفيعة التي تستحق. الكتابة عموماً أصبحتْ تعاني الاستسهال، أنظر اليوم إلى الشعر العربي الراهن، هناك الكثير من الاستسهال والبساطة التي لا تليق بهذا الشعر. لكن المشهد الشعري العربي غزير ومتنوع، فكيف تراه؟ - ليست لدي معرفة دقيقة بصراحة، لكن ما يجعلني متحمّساً هو ازدياد عدد الشباب وعدد النساء الكاتبات. وفي المغرب، يبدو هذا جليّاً، ولعلّ هذا قد يُساهم في خروج شاعر كبير أو شاعرة كبيرة إلى الضوء. ولكن لا شك في أنّك تقرأ الشعر العربي والأدب العربي عموماً، خصوصاً مع حركة الترجمة النشيطة؟ - هناك حركة ترجمة للأدب العربي والشعر العربي إلى الفرنسية، أقرأ أدونيس ودرويش وجمال الغيطاني وإلياس خوري وحنان الشيخ ومحمد بنيس وغيرهم. لا أريد أن أنسى أسماء. الترجمة مُفيدة لتقديم الكتاب العربي، ولكن للأسف، الصحف لا تهتم بالثقافة العربية. والوضع السياسي العربي يُرخي بظلاله على الثقافة هنا أيضاً، ولهذا لا نجد حضوراً للأدب العربي في أوروبا كما ينبغي، لا في المكتبات ولا في اللقاءات، ولعلّنا مسؤولون أيضاً عن هذا الوضع تماماً كما هي الأوضاع السياسية وسيادة نظرة الشك أو الاتهام لكل ما هو عربي. وأريد أن أغتنم فرصة الحديث عن الترجمة، لأدين بشدة، ما تقوم به إحدى دور النشر العربية، وهي» دار ورد» في سورية، التي تُقرصن كتبي وتشوهها وتترجمها في شكل سيء، إنه عمل سيء ومُدان ولا أخلاقي... يبدو أن الشعر يَنال حظّه في العالم العربي وفي المغرب، والدليل هو تكريم «بيت الشعر المغربي» لك بجائزة الأركانة التي سبق أن حصلَ عليها درويش ومحمد السرغيني وسعدي يوسف. - صحيح، وهي أوّل مرة أكرّمُ فيها في المغرب، خلال تاريخي في الكتابة، وهذا أمر مؤثّر. لقد حصلتُ على جوائز عديدة خارج البلاد، لكنها أول جائزة مغربية. تجربة بيت الشعر في المغرب تجربة متميزة. وفي المغرب علينا أن نهتمّ أكثر بالشباب، وقلتُ ذلك مرة لوزير الثقافة وأقولها لكل المسؤولين والفاعلين. في فرنسا تُعطى للشباب منح وجوائز للاستمرار في الكتابة، ينبغي أيضاً دعم الموسيقى والمسرح وكل الفنون، إنها أمور ضرورية للوطن، وعلى الحكومة والقطاع الخاص المساعدة في هذا الاتجاه.