ما هو سر موافقة قادة الاتحاد الأوروبي في قمة هلسنكي على ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد؟ وهل تتوج هذه الموافقة الجهود المكثفة التي قامت بها بشكل أساسي الحكومة الألمانية متمثلة بالمستشار كيرهارد شرودر الحزب الديموقراطي الاجتماعي ووزير خارجيته يوشكا فشر حزب الخضر؟ تعود هذه الجهود الى الصيف الماضي عندما أعلن كل منهما عن ضرورة إعادة النظر بقرار قمة لوكسمبورغ 1997 والقاضي برفض طلب الترشيح الذي تقدمت به أنقرة لدخول الاتحاد. ويعني ذلك أن على أوروبا أن تعطي تركيا فرصة جديدة باتجاه الانضمام اليها بدلاً من الابتعاد عنها. وكان موضوع الترشيح على رأس القضايا التي ناقشها شرودر ووزير خارجيته خلال جولاتهما في أوروبا وتركيا طوال الأشهر الثلاثة الماضية. وكان الهدف اقناع القادة وخصوصاً اليونان الموافقة على الطلب. الجهود المكثفة التي بذلتها حكومة برلين تطرح اسئلة عن السبب الكامن وراء الحماس الألماني؟ ويثير الاستغراب ان المانيا كانت على رأس الدول التي وقفت وراء اخفاق المحاولات التركية للانضمام الى المجموعة الأوروبية التي أصبحت تعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي منذ عام 1963، أي عندما وقعت تركيا على اتفاق الشراكة مع المجموعة آنذاك. وبلغ ذلك أوجه خلال قمة لوكسمبورغ قبل عامين حين عارض المستشار السابق هيلموت كول طلب الترشيح التركي. وتبع ذلك تسميم العلاقات بين البلدين بشكل أوصلها الى مستويات حرجة. كما يثير الاستغراب أيضاً أن يأتي هذا الحماس من وزير خارجية أخضر كالوزير فشر سيما وأن حزبه من أكثر الأحزاب الأوروبية نقداً لتركيا بسبب عدم احترامها مبادئ حقوق الانسان. يبرر المسؤولون حماسهم بسيناريو مفاده أن رفض الترشيح التركي ريثما تتحقق شروطه قد يدفع أنقرة للبحث عن خيارات أخرى بعيداً عن أوروبا. ومع الابتعاد سيقوى نفوذ التيارات الدينية والقوى القومية، ومن شأن ذلك أن يضر بمصالح الغرب. فتركيا تعتبر أهم حليف استراتيجي لأوروبا لكونها عضواً في حلف الأطلسي وتتمتع بموقع جيوسياسي يجعلها تتوسط مناطق المشرق العربي وايران والقوقاز وروسيا. ويذكر أن هذه المناطق لا تعتبر بؤراً لنزاعات تصيب أوروبا فقط وانما مستودعات لثروات حيوية لها وللولايات المتحدة على رأسها النفط والغاز. ولكن هل تكفي هذه المبررات لتفسير الاندفاع الألماني. اذن لا بد من وجود مبررات أخرى تصب في اطار التفسير المذكور، فما هي؟ منذ توقيع اتفاق الشراكة التركية - الأوروبية لوحظ أن التعاون الأوروبي - التركي على الصعيد الاقتصادي لم يسر بالوتيرة التي سار عليها مع بلدان أخرى أصبحت خلال فترات قصيرة أعضاء في الاتحاد مثل البرتغال واليونان واسبانيا. فالتعاون المذكور بقي حتى الآن في اطار منطقة تجارة حرة يسمح للبضائع التركية الدخول الى أسواق الاتحاد ويمنع دخول الأشخاص. أما مثيله مع البلدان المذكورة تجاوز التجارة الى التكامل في المجالات الانتاجية والخدمية وصولاً الى فتح الحدود والوحدة النقدية والبدء باصدار التشريعات الاقتصادية والاجتماعية الموحدة. وعلى عكس ذلك سار "التعاون العسكري" بين تركيا والاتحاد الأوروبي سواء في اطار حلف شمال الأطلسي أو خارجه بوتائر أسرع بكثير مما هي عليه الحال في المجال الاقتصادي. ولا تعود أسباب ذلك لدوافع أمنية واستراتيجية كما يعلن القادة الألمان وغيرهم من قادة الاتحاد في قيامهم وقعودهم. فالمسألة أيضاً مسألة صفقات بعشرات البلايين. فتسليح الجيش التركي يحتاج سنوياً لمبالغ تتراوح بين 4 الى 5 بلايين دولار. وتشير المعطيات الى أن تركيا تصرف نحو 5 في المئة من ناتجها المحلي الاجمالي على التسلح. وتعتبر هذه النسبة الأعلى بين بلدان الأطلسي. ويشكل ذلك سوقاً مهمة للصناعة العسكرية الأوروبية التي تعتبر الألمانية من أهمها. وما زاد من أهمية سوق السلاح التركية اعلان قادة الجيش المذكور عزمهم على تنفيذ خطة طموحة تقتضي بتحديث مختلف صنوف الأسلحة بقيمة تقدر بنحو 58 بليون مارك الماني حتى عام 2007. وهناك برنامج تسلح طويل الأجل ينطوي على صرف مبالغ فلكية تصل الى 270 بليون مارك، أي نحو 135 بليون دولار، بحلول عام 2025. ومما لا شك فيه أن مثل هذا البرنامج أثار لعاب واهتمام القادة الأوروبيين وعلى رأسهم قادة برلين. وزاد من اهتمام هؤلاء اعلان العديد من المسؤولين العسكريين الأتراك عن تفضيلهم شراء 1000 دبابة المانية من نوع ليوبارد 2 على غيرها. وفي حال تمت فإن ذلك يعني صفقة نادرة للصناعة العسكرية الألمانية بقيمة تصل الى نحو 13 بليون مارك. وبالنسبة لتركيا تعتبر الصفقة الأضخم في تاريخ تسليح الجيش التركي. من ناحية أخرى حصلت المانيا خلال العام الماضي على عقود لتزويد تركيا بسفن حربية وغواصات تتجاوز قيمتها بليوني مارك ناهيك عن أسلحة أخرى يتم انتاجها بالتعاون مع فرنسا. وبناء على الصفقات التي تمت وتلك التي ينتظر اتمامها يمكن فهم أحد أهم أسرار الاهتمام الألماني الكبير بترشيح تركيا. الى العوامل الاستراتيجية والمصالح التجارية ينبغي عدم نسيان أهمية الضغوط الأميركية. فانطلاقاً من موقع تركيا ومن كونها حليفاً وفياً على مدى العقود الخمسة الماضية مارست واشنطن ضغوطاً على الألمان وباقي الأوروبيين من أجل قبول ترشيحها لعضوية اتحادهم، خصوصاً وأن الحكومة الألمانية من أكثر الحكومات الأوروبية مسايرة لرغبات واشنطن. أظهرت سنوات الشراكة الأوروبية - التركية حتى الآن أن انقرة تحولت خلالها الى سوق للسلاح الأوروبي بوتائر أسرع من تحولها الى قوة اقتصادية متكاملة مع الاقتصادات الأوروبية. وتشتكي تركيا من قلة المنافع التي حصلت عليها من أوروبا مقابل خدماتها الأمنية والستراتيجية. فالمساعدات والقروض والمعونات الأوروبية بقيت حتى الآن دون المستوى المتوقع. كما أنها ارتبطت الى حد كبير بوضع شروط سياسية وبموافقة اليونان التي تعتبر من أكثر الدول خلافات مع جارتها الشرقية. ومن المؤكد أن القبول بالترشيح سيؤدي الى ضخ المزيد من الدعم المالي. غير أن ذلك لن يكون حاسماً على صعيد التهيئة لدخول الاتحاد. فمثل هذه التهيئة تتطلب شروطاً يتطلب تحقيقها سنوات قد تمتد لعقود طويلة في حال توافرت امكانات ذلك. ومنها على سبيل المثال حل الخلافات مع اليونان وانهاء نفوذ العسكر في الحياة السياسية وحل المشكلة الكردية وتحويل الدولة الى دولة قانون والتنازل عن صلاحيات مهمة لصالح المفوضية الأوروبية في بروكسيل. ويرى قسم كبير من المراقبين ان ذلك لن يحظى بموافقة قادة العسكر والقوى القومية ذات النفوذ الأقوى في البلاد. ويرجح العديد منهم أن تؤدي معارضة هؤلاء لتحقيق مثل هذه الشروط الى دفع أنقرة للتنازل عن رغبتها بدخول الاتحاد الأوروبي والاكتفاء بالشراكة معه بمحض ارادتها. وفي حال تم ذلك سيتمكن الأوروبيون من ضمان مصالحهم من دون حساسيات واتهامات. فتركيا ستبقى أهم شريك عسكري واستراتيجي من دون أن يضطروا الى قبولها في عضوية ناديهم.