"… ولو انه كان جواري صحافة مؤيدة قوية لم استطاع خصومي ان ينجحوا في محاربة دستور 1930، ذلك الدستور الذي بينت كيف وضع بعناية وروية ودقة، والذي كان ارقى دساتير العالم، وأقلها عيوباً بالنسبة الى دستور 1923، بل انه كان خالياً من العيوب التي عانتها البلاد في الماضي وتعانيها الآن، ولكن خصومي استطاعوا ان يحاربوني بأقوى سلاح، وهو الصحافة". لعل بامكان هذه العبارات الموجزة المقتطفة من مذكرات اسماعيل صدقي باشا ان تلخص عالماً بكامله، عالماً من المؤكد ان الاقطار العربية باتت اليوم غائبة عنه تماماً: عالماً يدور من حول كلمتين "الدستور" و"الصحافة" وهما الكلمتان السحريتان اللتان لا يمكن لهما الا ان ترتبطا بالكلمة الثالثة: ديموقراطية. ففي مصر الثلاثينات، التي كانت واقعة تحت الاحتلال البريطاني، كانت الصراعات الأساسية، كما نفهم من كلام اسماعيل صدقي باشا تدور من حول الديموقراطية، وكان محور اللعبة الدستور، اما اداتها فصحافة كانت حرة. اما الدستور الذي كان اسماعيل صدقي يدافع عنه فهو الدستور الذي اشرف على وضعه في العام 1930 حين تسلم الحكم في وقت رغب فيه القصر والانكليز بمحاربة "الوفد" الذي كان يقوده مصطفى النحاس الصورة، معتقدين ان موت سعد زغلول قبل سنوات قليلة قد يكون من شأنه انصراف الناس عن ذلك الحزب، مما يهيئ لوضع دستور جديد يحد من سلطة البرلمان وبالتالي من رقابة الشعب الناخب على المجريات السياسية في البلد. وكان دستور العام 1923 الذي ضع في ظل تقدم "الوفد" وهيمنته السياسية على البلد، يشكل شوكة في خاصرة القصر والانكليز. وهكذا جيء باسماعيل صدقي ليوقف العمل بذلك الدستور ، ويضع الدستور الجديد الذي عرف باسم دستور العام 1930. وبالفعل وضع صدقي الدستور، وعلى الفور بدأ حزب "الوفد" يشن حملته عليه مطالباً بوقف العمل به. ولم يكن "الوفد" وحده في المعركة، بل ان "الأحرار الدستوريين" خصوم "الوفد" التقليديين عارضوه ايضاً، لأنه - أي الدستور الجديد - كان ينحو في نهاية الامر الى ضرب الحياة الحزبية لصالح حكم مركزي اوتوقراطي. وهكذا اندلعت المعركة الدستورية قوية بأكثر مما كان يتوقع اسماعيل صدقي والقصر، وانتهى الأمر بأن قرر الملك والانكليز التضحية باسماعيل صدقي خوفاً من ان تتحول المسألة الدستورية نهائياً الى محور معركة حاسمة. وهكذا سقطت حكومة اسماعيل صدقي، وبات من الواضح ان دستور 1930 سيسقط معها. وفي 30 من الشهر نفسه، وكما كان متوقعاً صدر أمر ملكي بالغاء دستور صدقي وبحل مجلسي البرلمان القائمين. ولكن في المقابل لم يؤد الأمر الملكي الى اعادة دستور 1923، وهكذا اعتبر "الوفد" ان انتصاره لم يكن كاملاً. صحيح انه انتصار في نهاية الأمر، ولكن لا بد من متابعة الكفاح من اجل تحقيق انتصار دستوري اكبر. وهو نفس ما عّبر عنه محمد حسين هيكل، خصم الوفد واحد أقطاب "الأحرار الدستوريين" الذي اعتبر بدوره ان الغاء دستور صدقي كان "انتصاراً عظيماً، لأنه القى الدستور الذي حاربناه، ولن تستطيع قوة ان تبقي الأمة بغير نظام برلماني زمناً طويلاً، فمن الخير وحسن السياسة تجسيم هذا الانتصار والتأكيد بأن دستور الأمة عائد بلا محالة".