روى لي يوسف درويش ، أنه عندما تولى وجمال العطيفي وزير الاعلام المصري السابق، ادارة "الجمعية المصرية للاقتصاد"، العام 1968، لم يجدا في مكتبتها كتاباً واحداً عن اسرائيل، فقد كان افتراض المعرفة عن اسرائيل والاسرائيليين، من خلال الدعاية الرسمية، من المحرمات تابو، على رغم ان "جمعية الاقتصاد" خرَّجت وزراء ورؤساء حكومات، ومثَّل اعضاؤها في العهد الملكي وحتى الآن، النخبة الاقتصادية والقانونية في مصر. وما كان من العطيفي ودرويش اليهودي المصري المناضل ضد الصهيونية حتى الآن، الا أن كتبا الى الرئيس جمال عبدالناصر يطلبان منه السماح بتزويد جميعة الاقتصاد بعدد من الكتب عن اسرائيل. ظل الاعتقاد حتى زيارة الرئيس السادات للقدس العام 1977، بأن موقف المصريين من اسرائيل منذ قيامها العام 1948، يتجسد في اللاءات الثلاث: لا اعتراف، لا تفاوض، لا صلح، بعد أن جرى تأثيم وتخوين الشيوعيين المصريين من الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، بعد اعترافهم بقرار الاممالمتحدة بتقسيم فلسطين الى دولتين عربية ويهودية العام 1947. وفي الحقيقة ان اتصالات السياسيين والمثقفين المصريين، بنظرائهم الاسرائيليين، لم تنقطع. صحيح أن الحكم في مصر، النظام الملكي ثم النظام المصري، ظل يتنكر لإسرائيل رسميا، إلا أنه ظل هناك من ينادون بفكرة السلام بين مصر واسرائيل، بل تشكلت في مصر "حركة انصار السلام" قبل ان تتشكل نظيرتها في اسرائيل، وظلت تعمل لسنوات على امتداد العهدين الملكي والناصري. ويروي محمد حسين هيكل، زعيم حزب الاحرار الدستوريين ورئيس تحرير صحيفه "السياسة"، عن موقف تيار سياسي وثقافي مصري يمكن تسميته اصطلاحا ب "تيار السلام" في كتابه "مذكرات في السياسة المصرية"، الذي صدر العام 1977 عام مبادرة السادات بزيارة القدس. ويتحدث هيكل عن حادثة حدثت بعد قيام اسرائيل بأربعة أشهر أيلول/ سبتبمر 1948 قائلاً: "انتقلت الى جنيف، وهناك قابلني مسيو ساسون - الياهو ساسون: موظف كبير في وزارة الخارجية الاسرائيلية وقتها - وبدأ يحدثني في عقد الصلح بين مصر واسرائيل. وقال: اصارحك بأننا لا نعنى من الدول العربية بغير مصر، واننا حريصون كل الحرص على اقامة العلاقات بيننا وبينها على اساس من المودة والصداقة". ثم يروي هيكل أنه طلب من ساسون أن يتنازل الاسرائيليون صراحة عن منطقة النقب لمصر، وأن يعلنوا استعدادهم لهذا التنازل قبل أي حديث. فكان رد ساسون الذي لم يرض هيكل كما قال: "وما حاجتكم الى النقب ولديكم أنقاب كثيرة لم تصلحوا منها شيئاً"؟ ثم يروي حادثة أخرى حدثت في أول كانون الثاني يناير 1949، عندما التقى اثنين من الاسرائيليين وسيطين لساسون. يقول هيكل ان الوسطيين عادا يخبرانه ان اسرائيل حريصة اشد الحرص على مصر وأن مصر ترغب عن هذه الصداقة لأمر لا يفهمانه، وأن اسرائيل قدمت لمصر ما تعتقده الاساس الصالح لعلاقاتهما في المستقبل. ولما سألهما علم أن اسرائيل بعثت بمشروع لمعاهدة مودة وصداقة تعقدها مع مصر، وان هذا المشروع ابلغ الى ابراهيم عبدالهادي باشا وهو في رياسة الديوان الملكي. وطلب هيكل من الاسرائيليين صورة من المشروع للاطلاع عليها فأرسلاها اليه. ويذكر هيكل أنه عندما طالع مشروع المعاهدة اندهش. يقول: "تولاني العجب أشد العجب. لقد صيغ على غرار المعاهدة المصرية - البريطانية التي عقدت في العام 1936. فالدولتان الساميتان المتعاقدتان يجب ألا تتخذ أيهما سياسة في البلاد الاخرى تناقض سياسة الدولة الأخرى. ويجب أن تخف ايهما لنجدة الدولة الثانية اذا تعرضت للاعتداء. ويجب أن تعامل كلتاهما بشروط الدول الأكثر رعاية في اراضي الدولة الاخرى، الى غير ذلك من أمور أثارت دهشتي، حتى لقد ظننت ان المشروع لم يجرؤ أحد على ارساله الى مصر". وكان مما زاد دهشة هيكل، أن الملك فاروق كان يعلم كل شيء. يقول: "عدت الى مصر ... وتشرفت بمقابلة جلالة الملك وأفضيت في هذه المقابلة بتفصيل ما دار بيني وبين هذين الإسرائيليين، وما دار قبل ذلك بيني وبين مسيو ساسون حين كنت في جنيف. فابتسم جلالته بعد أن أتممت حديثي وقال: لقد بلغ من امر هؤلاء القوم ان خاطبوني مباشرة بخطاب بعثوا به. وكان امامهم طريق الحكومة أو طريق الديوان الملكي! بيد ان هيكل باشا لم يكن الصوت الاعلى في تيار السلام المصري. فها هو ذا اسماعيل صدقي باشا، الذي كان رئيساً لاتحاد الصناعات المصرية معقل البورجوازية المصرية وقتئذ، يسعى كرئيس للحكومة العام 1946 الى استغلال "النفوذ اليهودي، لتأييد موقف مصر في المفاوضات مع بريطانيا من اجل الجلاء عن مصر. ولتحقيق ذلك يلتقي في القاهرة مالياهو ساسون وممثلين عن الوكالة اليهودية وبمشاركة حاخام مصر حاييم ناحوم افندي. وكما يذكر محمد حسنين هيكل في كتابه "المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل"، فإن صدقي أبدى استعداد الحكومة المصرية لقبول تقسيم فلسطين، بما يعنيه ذلك من اقامة دولة يهودية. وكان الملك فاروق على علم بما قاله صدقي، ومنه أن صدقي سينتهز فرصة ظهور مناخ مناسب ونيات طيبة ويبلغ ساسون رأي الملك أو يحدد موعداً رسمياً لمقابلة بين الملك فاروق وبين حاييم وايزمان في قصر عابدين. وظل اسماعيل صدقي يدعو الى "صلح بين العرب واسرائيل"، محذراً من أن الحرب قد تضر مصر على صعيد القضية الوطنية جلاء الانكليز. ولدى مناقشة قرار اشتراك الجيش المصري في حرب فلسطين، عارض صدقي ذلك القرار، مشيرا الى احتمال انكسار القوات المصرية. ولم يمل صدقي بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948 من "الدعوة الواقعية" الى الصلح بين العرب واسرائيل. ونشرت جريدتا "المصري" و"الاهرام" في اول نيسان ابريل 1950، حديثا أدلى به صدقي الى مراسل وكالة "الاسوشيتدبرس"، قال فيه: "ان الوقت حان ليبدأ العرب واليهود محادثاتهم في سبيل اتفاق ممكن لعقد الصلح. وأود ان احتج على قول فريق من الناس "لا اتفاق مع اليهود"، وأود ان احذر من الآراء التي تتصف بالعناد والتشبث وهي آراء تلقى رواجاً وتنتشر حتى الآن. ومثل هذه الآراء هو السبب الذي يحول بيننا وبين حل هذه المشكلة. ويجب ان نشرع في اتباع الوسائل والاهتداء بالآراء التي تتخذ الحكمة رائداً لها". ودخل اسماعيل صدقي في سجال مع من يرفضون الصلح مع اسرائيل بقوله: لقد قبلنا عقد هدنة مع اليهود، ومن يفه بكلمة "هدنة" يفه بكلمة اتفاق وعملنا على ابراز هذه الهدنة الى عالم الوجود. وواجبنا الآن هو ان نسعى الى عقد الاتفاق، واقصد بذلك اتفاق الصلح. وعندما أقول "التحدث مع اليهود" لا يعني هذا حتماً أن نخضع لإرادتهم ونلبي مطالبهم، لكننا لا نستطيع أن نربط أنفسنا بشيء مجدٍ بالاقتصار على الكلام فنحن نستطيع أن نكتشف لأنفسنا ما هي الأشياء التي يريدها اليهود ونستطيع أن نقدم مطالبنا المعقولة أملاً في العثور على الأمور التي تجعل الاتفاق ممكناً". ولما سئل صدقي باشا عن قبول دولة اسرائيل كحقيقة واقعة، قال: "هل نستطيع أن ندفع باليهود مرة أخرى الى البحر الذي جاءوا منه؟ وإذا كانت هذه هي النية التي تضمرها الدول العربية حتى الآن، فإنني لن أقول شيئاً اذا كانت لدى تلك الدول الوسائل التي تمكنها من وضع نيتها هذه موضع التنفيذ. لكن هيئة الأممالمتحدة اعترفت باسرائيل وتؤيدها الآن اكثر دول العالم، ويجب علينا ان نواجه هذه الحالة، ولابد ان تؤدي هذه الحالة بنا الى الاتفاق النهائي. ولهذا يجب ان نقف بأفكارنا على السعي لأي حل قد يرضي مطالبنا وترتاح له ضمائرنا". وعما كان يذكر ولا زال عن خطر التوسع الاسرائيلي، قال اسماعيل صدقي لمراسل "الاسوشيتدبرس": ان اسرائيل اصغر من ان ينشأ عنها مثل هذا الخطر الشديد. اما في الميدان الاقتصادي، فالمعروف أن لهم موهبة خاصة في الاعمال التجارية، لكننا نغالي اذا كنا نتنبأ بسيطرة اليهود على الشرق الأوسط لهذا السبب. اما هذا الخطر فإنه لن يصبح حقيقياً قبل 30 أو 40 سنة. ولكن، ألا نتقدم نحن العرب في خلال هذه الفترة أيضا؟!. ومثل هيكل باشا وصدقي باشا كان النقراشي باشا زعيم حزب السعديين ورئيس الحكومة المصرية قبيل وابان حرب 1948. كان النقراشي يرى أن مصر في نزاع مع الحكومة البريطانية من اجل الجلاء عن مصر، ولذلك فإن الجيش المصري لا يمكن أن يشترك في أي حرب. وكان مما قاله: "أنا لا أريد أن أعرّض هذا الجيش، الذي هو كل حجتي وسندي في القضية المصرية، الى تجربة خطيرة. ولو كانت نسبة الخطر في دخول الجيش الى فلسطين لا تزيد عن عشرة أو خمسة في المئة، فإنني لا ارضي أن اجازف ولو بواحد في الألف". وتتضمن الوثائق الاميركية، برقية من السفير الاميركي في القاهرة، بنكني تاك، الى وزير الخارجية في 26 نيسان ابريل 1948، تفيد أن رئيس وزراء مصر النقراشي أبدى معارضته لدخول الجيش الى فلسطين لاعتبارات اخرى غير تأثير الحرب على القضية المصرية فالنقراشي كان قلقا من احتمال انقلاب عسكري يقوم به الجيش. كما كان النقراشي يرى أن القوات المصرية ليست مسلحة أو مجهزة بطريقة كافية، وكان يتخوف من أن هزيمة تلحق بالجيش المصري بأيدي اليهود سوف توجه ضربة قاصمة الى ادعاءاته بأن مصر قادرة على الدفاع عن نفسها وعن قناة السويس من دون مساعدة أجنبية. ومن المفارقات أن وزير الحربية المصري محمد حيدر باشا، كان - هو الآخر - لا يؤيد اشتراك الجيش المصري في الحرب. واذا بالملك فاروق يصدر اوامره الى وزير الحربية باعطاء الأمر للجيش باجتياز الحدود الى فلسطين- ولم يكن أمام حيدر باشا إلا الاذعان. فالملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة. وحتى لا يعتبر القرار مخالفاً للدستور طالما أنه لم يحصل على موافقة البرلمان، كان لا بد من أن ترابط القوات المصرية في مواقعها حتى يصدر البرلمان قرارا في الشأن. وبدَّل النقراشي رئيس الحكومة موقفه، ووقف في مجلس الشيوخ يدافع عن قرار الحرب. وهكذا رجحت كفة القصر الملك وحزب الوفد. وكانت دوافع فاروق للزج بالجيش في حرب 1948، مبعثها التنافس القوي مع الأسرة الهاشمية وطموح الملك عبدالله لتوحيد سورية بحدودها الطبيعية تحت تاجه. واصرار الملك عبدالله على ولوج جيشه الحدود الفلسطينية حتى لو كان ذلك من دون شركائه في الجامعة العربية. وكان قرار الملك فاروق الاشتراك في الحرب لقطع الطريق على الملك عبدالله لضم الضفة الغربية. وفي الداخل كان فاروق يراهن على النصر العسكري ليؤمن له شعبية في مواجهة اكبر خصم له في الداخل حزب الوفد، الذي كان أخذ منحى عروبيا بعد تأسيسه لجامعة الدول العربية وجعل من قضية فلسطين متكأ لزعامة مصر للدول العربية، في حين أنه كان حزب "القومية المصرية" بجدارة. لكن "الهزيمة" كانت من نصيب الملك والوفد. وأعيد الاعتبار لمواقف هيكل وصدقي والنقراشي، كما تجدد الجدل حول "هوية مصر". فكتب فكري أباظة في "المصور" في 15 نيسان ابريل 1949 تحت عنوان "تصحيح وتنقيح" انه آن الآوان بعد الحرب الفلسطينية أن نتوجه نحو الجنوب في سبيل القضية المصرية - السودانية. وفي مقال آخر، في "المصور" في 17 ازار مارس 1953، أكد اباظة ان "الواقع الذي لا شك فيه هو أننا مصريون ولا شيء غير ذلك". وفي ما بعد، دعا اباظة الى الصلح مع اسرائيل، لينال عقاب الدولة الناصرية. وكتب عباس محمود العقاد الذي كان مؤيدا لدخول الجيش المصري الحرب، مقالا في "المصور" 9 كانون الاول/ ديسمبر 1949 تحت عنوان "يجب أن تكون سياستنا مصرية لا عربية". ودعا العقاد الى "ان تكون سياستنا مصرية على الدوام في علاقتنا بالأمم العربية، مصرية في علاقتنا بالأمم الاوروبية، وانه يجب على السياسي المصري أن يسأل نفسه ازاء اي خطة عن فائدة مصر منها. فنحن لا نريد من العرب ان نسخرهم أو يسخروننا. نريد من سياستنا أن تكون مصرية عربية عالمية، ولكن ان تكون مصرية في كل اتجاهاتها". وبعد هزيمة الجيش المصري في حرب 1948، لم تتوقف الاتصالات من أجل صلح بين مصر واسرائيل. فعلى هامش الدورة الاستثنائية لمجلس الأمن في خريف 1948، دارت اتصالات مباشرة بين المصريين والاسرائيليين. وعقد رئيس الوفد المصري وهو وزير الخارجية محمد احمد خشبة باشا اجتماعين مع الياهو ساسون. وبمسعى من الحاخام حاييم ناحوم افندي، ارسل الملك فاروق الى باريس وكيل الديوان الملكي حسن يوسف باشا ومستشار الملك العسكري الاميرلاي اسماعيل شيرين بك والتقى الوفد الملكي المصري الياهو ساسون وضابطاً اسرائيلياً كبيراً. وعقد الطرفان ثلاثة اجتماعات لم تصل الى نتيجة. وفي عام 1952، وقبيل حركة الجيش، اجتمع الياهو ساسون في القاهرة بعدد من الشخصيات المصرية كحسين سري باشا رئيس الوزراء وأحمد عبود باشا أحد كبار رجال المال والأعمال والأميرلاي اسماعيل شيرين بك. ويذكر محمد حسنين هيكل ان ساسون وغيره من الاسرائيليين التقوا ساسة من الوفد في اوروبا، مشيرا الى الاجتماع بين محمود ابو الفتح صاحب جريدة "المصري" والمقرّب من زعماء الوفد وساسون في منتصف تموز يوليو 1952. وما كان ممكنا لتيار "السلام المصري" ان ينجح في التوصل الى صلح سلام مع اسرائيل بعد النكبة العربية العام 1948، فالحقيقة ان إسرائيل بعد اعلان قيام الدولة، لم تكن ترغب في "سلام" مع العرب يقتضي منها ترسيم الحدود. التي لم تحددها حتى الآن، والاعتراف بحقوق للفلسطينيين الدولة واللاجئين وبما تبسط دعواها بأن فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، فقد كان المطلب الاسرائيلي هو مجرد "الهدنة". ويروي بن غوريون في مذكراته أن أبا ايبان نصحه في 14 تموز يوليو 1949، بأنه لا ضرورة للركض وراء السلام وقال له: الهدنة تكفينا، فاذا ركضنا وراء السلام فإن العرب سيطلبون منا ثمناً: حدوداً، أو عودة لاجئين، او كليهما... لننتظر بضعة أعوام. وفي الجانب المصري، وكما ظهر من اتصالات هيكل باشا والوفد الملكي والسياسيين المصريين، بالاسرائيليين، بعد حرب 1948، طلبت مصر انسحاب اسرائيل من صحراء النقب لتصبح ضمن حدود الدولة الفلسطينية قانونيا وتحت السيطرة المصرية فعليا. كان التفكير الاستراتيجي المصري يعتبر النقب ارض الصدام المحتمل بين مصر واسرائيل أي أن تكون الحرب في النقب لا في سيناء. كما ان امتداد الدولة اليهودية الى النقب يحعلها واقعة على البحرين المتوسط والاحمر أي منافسة الموقع المصري وتهديد قناة السويس. وأخيراً فإن امتداد اسرائيل الى النقب يعزل مصر برياً عن الدول العربية الاسيوية. وللأسباب نفسها، ما كان لإسرائيل ان توافق على سلام مع مصر، تتنازل بموجبه عن صحراء النقب.