ليس الدستور المقبل هو ما يدور حوله الجدل الآن في مصر. بل هو الكتاب الذي أصدره الكاتب الراحل محمد زكي عبدالقادر في كانون الثاني (يناير) 1955 في سلسلة كتاب «روز اليوسف» عقب إجهاض محاولة الرئيس محمد نجيب إصدار دستور جديد بتشكيل لجنة في 13 كانون الثاني (يناير) 1953، انتهت من وضع مشروع دستور في منتصف 1954، لم يصدر قط بسبب تنظيم تظاهرات قادها رئيس نقابة عمال الترام في 26 آذار (مارس) 1954. وظل مجلس قيادة الثورة في الحكم حتى خرج أعضاؤه، واحداً تلو الآخر، وانفرد به عبدالناصر، ثم شاركه عبدالحكيم عامر، ووصل الأمر إلى اعتقال رفيق الثورة كمال الدين حسين. وامتدت محنة الدستور من 1954 حتى يومنا هذا. يقول عبدالقادر في مقدمة كتابه: «هذا الكتاب وحي أمل في مستقبل مصر، ونبع قلب وعي الحوادث، وقلم عاش معها بكيانه». ويضيف: «وقد ضللنا في كثير من الأحيان معالم الطريق، لكنه وحي الفطرة السليمة في ضمير هذا الشعب، هداه دائماً – حتى وهو في أشدّ عهوده ظلاماً – إلى حيث ينبغي أن يسير». ويقول الكاتب: «وظل المطلبان الأساسيان للشعب – بعد الحرب الأولى – هما المطلبان الأساسيان له قبل الحرب العالمية الأولى. ونعني بهما الاستقلال والدستور. والأول موجه إلى المحتلين، والثاني موجه إلى السراي، وكلاهما – على كل حال – مكملان أحدهما للآخر». هل تغير شيء بعد 56 عاماً، أو بعد حوالى قرن؟ إنهما مطلب الشعب حتى الآن: الاستقلال الحقيقي، الحضاري والثقافي والسياسي والاقتصادي والروحي. والدستور الذي يتم تفعيله وتطبيقه في حياتنا، ليس مجرد نصوص على الورق. ويقول الكاتب – الذي لم ينتم في حياته الى «الإخوان المسلمين»، ولم يكن متعاطفًا معهم – عن الفرق بين رؤية «الوفد» للمطلبين، ورؤية «الأحرار الدستوريين»: «لا بد من إظهار الفرق بين تصوير الوفد – ممثل الشعب – لفكرة الدستور، وتصوير الأحرار الدستوريين لها، فكلاهما على اتفاق في المطالبة بالدستور، إلا أن الوفد كان يريد الدستور معلياً إعلاءً تاماً لكلمة الشعب وإرادته، منصرفاً إلى التعبير عن هذه الإرادة، واشتراك الجميع فيها، من دون أن يكون الاشتراك في توجيه سياسة الأمة مشروطاً بشرط من مال أو ثقافة أو مصالح، بل نابعاً أصلاً من مجرد الوجود على الأرض المصرية، والانتماء إلى الشعب المصري، بينما كان الأحرار الدستوريون يرون أن الاشتراك في الانتخاب وظيفة وليس حقاً، ومن ثم لا بد من اشتراط شروط لها، تتعلق بالمركز الاجتماعي وتمثيل المصالح». ويشرح الكاتب سبب هذا الافتراق في الرؤية بين الحزبين، الشعبي والنخبوي: «الوفد – وهو ممثل الكتلة الشعبية الغالبة – واثق من أن كل سلطة الشعب سترتد إليه، بينما كان الأحرار الدستوريون فريقاً من كبار الملاك أو كبار المتعلمين، الأولون منفصلون انفصالاً طبقياً عن بقية الشعب، والآخرون منفصلون عنه انفصالاً ذهنياً». ثم يؤكد أهمية هذه الملاحظة قائلاً: «هذه الملاحظة طبعت في ما بعد كل ما وقع في الحياة المصرية من صراع دستوري، وكل ما عرقل أو أدَّى إلى عرقلة النمو الدستوري للشعب». ويقول عند الحديث عن المطلب الوطني الآخر، الاستقلال: «رأينا الفارق جوهرياً، فالوفد الذي يمثل الشعب كان يطلب الاستقلال على أنه القضاء التام على النفوذ البريطاني، والتخلص من الاحتلال بكل مظاهره وآثاره. أما الأحرار الدستوريون فكانوا يرون أن التعاون مع البريطانيين هو السياسة المثلى، فإنه في الاستطاعة من طريق هذا التعاون بلوغ الاستقلال المنشود شيئاً فشيئاً، متى نضج الشعب واستقام أمره في التعليم والسياسة والصحة، وما إليها من مظاهر التقدم». هل نرى فرقاً بين ذلك الجدل الذي ثار بين المصريين في أعقاب الثورة العظيمة عام 1919، وحتى إصدار دستور 1923، وقد سبقه تصريح 28 شباط (فبراير) 1922 الذي رفضه الوفد، ومع ذلك عمل بنتائجه، وبين ذلك الجدل الذين يدور الآن في أعقاب الثورة الشعبية العظمى في 25 كانون الثاني (يناير) 2011، وهل سمعنا ما دار في مؤتمر «مصر الأول» من الدعوة إلى حرمان المصريين البسطاء من نصف أصواتهم بحيث يُحتسب صوت الأمي أو الفلاح بنصف صوت؟ ماذا حدث بعد إعلان دستور 1923؟ اسمع لمحمد زكي عبدالقادر الذي رحل عن دنيانا منذ أكثر من عقدين: «في نيسان (أبريل) 1923 أُعلن الدستور، وتهيأت الأحزاب القائمة حينئذ لخوض المعركة، وهي الوفد والأحرار الدستوريون، والحزب الوطني – القديم، حزب مصطفى كامل – وكان الوفد عارض تصريح 28 شباط (فبراير)، وكان من مفهوم ذلك أن يستمر في استنكار التصريح وما ترتب عليه، بخاصة أنه حمل حملة شديدة على لجنة الثلاثين التي أعدت الدستور، ووصفها بأنها «لجنة الأشقياء»، وكانت نظرية الوفد أن الدستور، وهو أبو القوانين، وحامي الحقوق والحريات، يجب أن تضعه جمعية تأسيسية منتخبة انتخاباً حراً، وبذلك لا يكون منحة من أحد أو عرضه للعبث والتعديل». «وتولت وزارة يحيى إبراهيم إجراء الانتخابات التي جرت في جو مشبع بالحرية الكاملة، واكتسح الوفد المعركة اكتساحاً لم يسبق له مثيل، وجاءت النتيجة مفاجأة لكل المراقبين السياسيين». «وكانت هذه الانتخابات بمثابة حكم أصدره الشعب على القيم الحقيقية للأحزاب والقوى التي تقدمت تلتمس ثقته». لا أريد أن أطيل في الاقتباسات، وأنصح بمراجعة الكتاب الذي أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 2010، العدد 16 في سلسلة أدباء القرن العشرين «محمد زكي عبدالقادر - محنة الدستور 1923–1952 - دراسة». اليوم ونحن في صدد إصدار دستور جديد، يليق بمصر في القرن الخامس عشر الهجري والألفية الجديدة الميلادية يثور الجدل من جديد. هل نهدر فرصة الحياة الديموقراطية مرة ثالثة؟ لقد ضاعت منَّا محاولة إقامة نظام ديموقراطي في أعقاب ثورة 1919 العظيمة، عندما أفسد الاحتلال والسراي الملكية وأحزاب الأقلية الحياة البرلمانية والسياسية، فكانت النتيجة هي الوصول إلى طريق مسدود مع حرب فلسطين عام 1948. وأجهضت حركة الجيش المباركة في تموز (يوليو) 1952 المخاض الشعبي التغييري الذي كان ينذر بولادة طبيعية لنظام سياسي جديد، فجاءت ولادة قيصرية بانقلاب تحول إلى ثورة عندما تبنى المطالب الاجتماعية والاقتصادية والتنموية، ولكن عهد الجمهورية أهدر فرصة أخرى للحياة الديموقراطية في أحداث آذار (مارس) 1954، على رغم مطالبة «الإخوان المسلمين» وبعض ضباط الثورة مثل خالد محيي الدين، ورئيس البلاد وقتها محمد نجيب، بالحياة البرلمانية، وعودة الجيش إلى الثكنات، وهذا حديث يحتاج إلى مقالات أخرى. وكانت النتيجة أنه على رغم كل الإنجازات التي حققها عبدالناصر، وعلى رغم زعامته الكاريزمية الهائلة في مصر والوطن العربي، أفقنا على هزيمة مروعة، وانهيار كامل في حزيران (يونيو) 1967، ثم كان الانقلاب على كل ما صنعه عبدالناصر في عهد السادات، ثم السرقة الكبرى للسلطة والثروة في عهد مبارك، وضاعت الديموقراطية أيضاً. اليوم في أيدينا فرصة قد لا تتكرر، أن نرسي أساساً ثابتاً لحياة ديموقراطية حقيقية، نستفيد فيها من التجربتين الفاشلتين. ويثور الجدل حول الدستور الجديد، ومن يصنعه؟ وأتساءل: كيف يصدق الشعب أستاذاً للقانون يُدَرِّس لطلابه – وأنا كنت منهم – أن التشريع لا يلغيه إلا تشريع، والدستور لا يسقط من تلقاء ذاته، فإذا به يقول ما هو أبشع: «إن تظاهرة تُلغي الاستفتاء والإعلان الدستوري»! وأتساءل: كيف يثق الشعب في رئيس حزب، ورئيس تحرير كبير يقول إن حكماً صدر للمحكمة الدستورية يلغي الطريقة التي تم استفتاء الشعب عليها لإصدار الدستور بانتخاب جميعة تأسيسية من مئة عضو على مرحلتين، أي أن ينتخب الشعب برلماناً جديداً من مجلسين – شعب وشورى – يقوم أعضاؤه بانتخاب جمعية تأسيسية من مئة عضو من خارج أو داخل البرلمان، تمثل الشعب تمثيلاً متوازناً وحقيقياً، فإذا بنائب رئيس المحكمة الدستورية يُكَذِّب هذا الكلام المعيب ويشرح الحكم الصادر في شأن مسألة التحكم في بنك فيصل عام 1994. أدعو الى الكف عن هذا الجدل العقيم والاستماع إلى صوت الشعب الذي شَبَّ عن الطوق، فلا يحتاج إلى من يعلمه أو يظن في نفسه أنه أعلم منه شأناً ومكانةً ومكاناً. وإذا كان هناك قلق ومخاوف من غالبية لا يعلمها إلا الله، فلنتفق على أن نذهب إلى الانتخابات في قائمة واحدة، ببرنامج واحد، وحينئذ ستكون لهذه القائمة غالبية تشكل حكومة وحدة وطنية لإنقاذ الوطن، وتحمل أعباء المرحلة الانتقالية، وبدلاً من أن نظل في موقع المطالبين، نتحول إلى موقع المسؤولية، وهناك نُخب فكرية تستطيع الإبداع والابتكار والتجديد والاجتهاد. * قيادي في جماعة الأخوان المسلمين - مصر