لقد طال عهدنا بالريف حتى كاد ينكرنا وحتى كدنا ننكره. ولست أزعم أنني ولدت في الريف، أو أنني نشأت فيه. على أنني كنت أكثر من انتيابه والعيش فيه كلما تهيأ لي انتيابه والعيش فيه. ولكن الدهر الماكر قد قطع السبب اليه، فحرمني غشيانه سنين عدداً، ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإذا نحن قلنا الريف، قلنا الطبيعة، أو أدنى الأشياء الى الطبيعة. والطبيعة، مهما يكن لون حياتنا، هي مصدرنا، وهي اللاصقة بخلقنا، وإذا رددنا ساعة الى نفوسنا، لم نجد غير الطبيعة بين أيدينا وعن الأيمان والشمائل جميعاً. ولقد يبعد بنا طول العيش في المدن، ولقد يمعن بنا في شتى السبل، حتى ننسى الطبيعة أو نكاد ننساها، ويرجح الظن بأنه قد انحسم بيننا وبينها كل سبب، وانقطعت جميع وشائج الرحم، ولا نزال منها على هذا، ولا تزال منا على ذاك، الى أن نغشى الريف، فإذا السبب موصول، وإذا الرحم ما برحت واشجة، وإذا العطف يعتلج في الصدور، وإذا الحنان يترقرق في النفوس، وإذا لهوات القلوب تتفتح، فلو أمكن لها لَحَسَتْ هذه الطبيعة حسواً. وهل كان عجباً أن يحس المرء أبلغ الغبطة والأنس، إذا آب الى أمه الحنانة الرؤوم بعد طول النوى، مهما يكن قد ضرب في الأرضين، وتقلب في شتى الأقطار، وعايش أصناف الخلق، وتوسم مختلف الوجوه، وهفا قلبه الى من هفا من الناس؟ اللهم ان عيش الطبيعة هو الموصول بفطرنا، واللاصق بطباعنا لأننا، كما قلت، عنها صدرنا. فإذا أحال المقام في المدن أساليب عيشنا، ولون في فنون حياتنا، وأوال لنا صوراً من صور، وأبدل مناهج متعنا بمناهج أخر فإن شيئاً من هذا لم يقطع ما بيننا وبين الطبيعة، ولم يخرجنا منها أو ينزعها منا، وانما يشغلنا عنها. فإذا نحن طالعناها لم يزل شأننا على الحالم إذا استيقظ، والغريب إذا آب واستقر به القرار بين الأهل والصحاب! وكذلك كنت من الطبيعة حين هبطت الريف، وامتد بصري في الآفاق، وأحاط بي الزرع والماء. وما كدت أسلخ بضع ساعات حتى استشعرت أنساً كأنني كنت في وحشة. ووجدت من الألف ما يجد الآئب من الغربة. وما لي لا أجد هذا واستشعر هذا، وقد رجعت الى أصلي ونزعت الى طبعي، وخلعت عن نفسي كل كلفة، وامتلختها من كل ما غرست من تصنع استكرهت عليه مناهج تلك الحياة. وما أجدر الطبيعة بأن تقهر الصنعة وان طال بها الزمان! هذه سماء كبيرة بعيدة الآثار، وهذه أرض مبسوطة تشقها الأنهر والترع، وتنعطف فيها الجعافر والخلجان، وقد لبست حلتها الخضراء فأصبحت نهباً للعيون من حسن وجمال.