اقترحتُ على الأصدقاء في (الشرق) أن نبدأ (زاوية وقت للكتابة) الجديدة بقراءة التجربة التي أنجزتها مؤخراً في إقامتي الأدبية في ألمانيا، وقد قبل الأصدقاء، مشكورين، اقتراحي، من أجل وضع القارئ في المناخ الذي صاغني لئلا أقول كَتَبَنِي- في الهزيع الأخير من هذا الوقت الواسع فسيح الأرجاء. ثمة رغبة غامضة لدى الشاعر أن يُقرأ في كل مرةٍ، عند كل نصٍ، بشكلٍ مختلفٍ عن المرة السابقة، مثلما يُنجزُ صنيعَه الأدبيّ الجديد بطموح الاختلاف والمغايرة عن نصوصه السابقة. وهذا طموح مشروع، يظل في حدود طاقة الشاعر عن تحققه في النص. غير أن رغبته في قارئ يَقرأ بشكل مختلف في كل مرة، فذلك يتوقف على طبيعة القارئ واستعداده الفني لتحقيق ذلك، وسيكون ذلك غالباً خارج حدود الشاعر، فالقارئ طاقة تأتي بعد الشاعر والنص، وهي طاقة أكثر تحرراً من كليهما. تلك هي التجربة التي تحدث بمعزل عن الرغبات والنوايا. بالنسبة لي، هذه هي المرة الأولى التي يُنشر لي كتابٌ على حلقات متواصلة قبل صدوره مطبوعاً. والحق أنها تجربة بمثابة المغامرة. فإذا كانت هي مألوفة وتصلح للعمل القصصي أو الروائي، لا أعرف كيف ستناسب نصاً شعرياً. وربما تكون طبيعة هذا الكتاب، المتصل بفلسفة المكان وتجلياته الرؤيوية، هي ما تشفع لنا خوض هذه التجربة، لوضع الكتابة الجديدة في سياق (قرائي) زاخر بالمكتشفات. 2. (يوميات بيت هاينريش بول)، كتابٌ أنجزته خلال إقامتي الأدبية طوال سنة كاملة، قضيتها، بمنحة كريمة، في «بيت هاينريش بول». وهي مؤسسة ألمانية ثقافية تعمل على استضافة الأدباء والفنانين من شتى بلدان العام، لقضاء فترات المنحة الأدبية لمدد تتفاوت بين الأربعة أشهر وعام كامل، يكون الضيف فيها متمتعاً بكافة أشكال الرعاية التي يستدعيها المفهوم الإنساني للتفرغ الأدبي. ومكان الإقامة، هو السكن الريفي الذي اختاره الكاتب الألماني الشهير هاينريش بول» في واحدة من أجمل مناطق الريف الألماني المدهش. 3. «هاينريش بول» هو أحد أشهر الأدباء الألمان في القرن العشرين، روائي وكاتب قصة قصيرة، ومثقف كونيّ، له مواقفه التقدمية اجتماعياً وسياسياً. ولد «هاينريش بول» لأبٍ نجارٍ في «كولن»، ودرسَ علم المكتبات. عاش سنوات الحرب المريرة وقع في الأسر الأمريكي، وكتب بواكير مؤلفاته عن تلك التجربة. كان ذا نزعة يسارية، دون نشاطٍ حزبيّ. سنة 1970 ترأس نادي القلم PEN-Club»» الألماني الأدبي حتى سنة 1972، وترأس سنة 1971 نادي القلم الدولي حتى سنة 1974. حصل على جائزة نوبل للآداب سنة 1972. كان له اهتمامه الإنساني بقضايا عالمية مشاركاً بزيارات وعلاقات فعالة، وكان استقبل في بيته الريفي هذا، الروائي الروسي ألكسندر سولجستين ضيفاً بعد خروجه من روسيا. كما دعم حركة السلام ضد حلف الناتو. وكان «هاينريش بول» يقول: «لن تنتهي الحرب طالما ظل جرحٌ ينزف في مكان ما بسبب الحرب». في أعقاب الحرب العالمية الثانية، يشير مؤرخو ونقاد الأدب الألماني، أن بداية جديدة ظهرت مع تجربة أدباء ما بعد الحرب، من بين أشهرهم «هاينريش بول» و»جونتر جراس» اللذان حصلا على جائزة نوبل للآداب. وعُرفتْ بهم «مجموعة 47»، التي اقترحتْ أدبها الجديد للتعبير عن التجربة العدمية المروّعة، التي تمثلتْ في الحرب وآثارها المدمرة، والتعبير عن الذنب والهزيمة، ومعالجة الماضي الألماني، وطرحتْ بجرأة فذّة أسئلتها النقدية لجوانب كثيرة في المجتمع والفكر والسياسة، راغبة في مراجعة ذاتية لمجمل التجربة الألمانية، في سياقها الأوروبي والكونيّ بأدوات وبآليات فكرية مستفيدة من الفلسفة الوجودية والتقدمية والمسيحية اعتماداً على مفاهيم الحداثة الأدبية المنبوذة من الحكم النازي. من أشهر مؤلفات «هاينريش بول» : القطار في موعده، أين كنت يا آدم، الخراف السوداء، نساء أمام النهر، حين بدأت الحرب، لقد حدث شيء. ترجمت أعماله إلى عدة لغات من بينها العربية. توفي «هاينريش بول» عام 1985 بعد رحلة مرض طويلة أجريت له خلالها عدة عمليات جراحية، في بيته الريفي، بعد مرض بالشرايين، وبقيت زوجته في نفس البيت حتى وفاتها بعده بسنوات قليلة. ثم صار البيت جزءاً من مؤسسة ثقافية كبيرة، توفر المنح الثقافية لتستضيف الأدباء والكتاب للإقامة في نفس البيت، المكوّن من أربع شقق ومكتبة وحديقة كبيرة، في منطقة كثيفة الغابات تقع شمال نهر الراين. كثيرٌ من المدارس والمؤسسات الألمانية تحمل، اليوم، اسم «هاينريش بول»، فقد بادر أصدقاء الأديب، ومقتفو أثره في النضال، بتكوين مشروع خيري يحمل اسم «مؤسسة هاينريش بول» المتصلة بحزب الخضر الألماني، الذي يُعتبر «هاينريش بول» الأب الروحي له. وتركز هذه المؤسسة في أعمالها على حقول التنمية السياسية الديموقراطية والبيئة والتضامن العالمي ونبذ استخدام العنف. كما تقدم المؤسسة منحاً دراسية في إطار برنامج تشجيع الموهوبين من الطلبة الألمان والأجانب في شتى العلوم والفنون والمعرفة. في «بيت هاينريش بول»، منذ عام 1989، حتى الآن، تم استضافة 200 كاتب وفنان من ثلاثين بلداً. 4. في أجواء بيت هذه التجربة المسكونة بالمعرفة والمشاعر والخبرة الإنسانية الرحبة، في طبيعة الأرض والحياة، تيسر لي أن أكتب نفسي من خلال ما يمكن وصفه بالحوار العميق بين الواقع والمخيلة والأحلام، بما لا يقاس من العواطف والأشواق والرؤى المتأججة، في احتدام الفعل العميق للطبيعة وهي تلامس الجسد الإنساني وتخترقه، لتعيد تشكيل الحساسية وصلتها بالعناصر الكونية فيما تصوغ الحياة والكتابة. يتوجب أولاً شكر الأصدقاء في «بيت هاينريش بول» على إتاحة هذه الفرصة للعيش وإنجاز النص، والتحية الخاصة للزملاء الأدباء والفنانين، رفقاء الإقامة في بيت الحب والحرية. كما يتوجب أن أشكر الأصدقاء في جريدة (الشرق) كونهم فتحوا شرفتهم لهذا النص لأن تأخذ كلماته طريقها نحو أفق (وقت للكتابة). 5. في خضم احتدام السجال الفكري، أوائل الثمانينيات، كتبَ «هاينريش بول» يقول: «لستُ قساً، ولستُ سياسياً، أنا كاتبٌ، وأريد دائماً أن أكون كاتباً».