يوم الأحد الماضي، كان صبحه صبحاً مشرقاً بالسواد .. كان يوماً دفنا فيه رأس الأديب العملاق، في مقبرة العود.. فعاد الطين إلى طينه، وعاد الثرى إلى ثراه... كان يوماً انتهت فيه فصول رواية طويلة اسمها غازي القصيبي.. الذي كان لا يهدأ ولا يترك أحداً يهدأ.. غازي القصيبي الذي أشغل الناس أكثر من خمسين عاماً هجعَ ونام.. واحتضنته الأرض والتراب.. يولد ابن آدم فيواجه الحياة بالبكاء والصياح.. ثم تأخذه إلى أحضانها فمنهم من يهدأ ويستكين ومنهم من تظل حياته صاخبة مليئة بالضجيج.. ولقد كنت أحدثت دوياً طويلاً ثم هاهو يلوذ معك صوتك، ويهجع هجعة القبور.. الله، الله. يا غازي، كم شعراً ألقيت، وكم حديثاً تحدثت وكم رأياً طرحت، وكم من مفكر، وسياسي صارعت، وكم رواية كتبت، وكم ديوان شعر تركت، وكم فيلماً وثائقياً استودعت.. فكأنك من عناه الشاعر بقوله: أقسّم جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء، والماءُ بارد.. وها أنت ترحل مخلفاً وراءك غبار المعركة، وقعقعة السلاح، لتترجل عن حصانك وتموت.. وكل نفس ذائقة الموت.. وكل نفس بما كسبت رهينة، وكل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.. وها أنت لاقيت وجه ربك بما قدمت.. وإني لأسأل الله الكريم أن يحسن مقدمك وأن يجعل مثواك برداً وسلاماً.. فقد كنت مؤمناً عميق الايمان عميق الاحساس بالله، وكنت تحب الخير للناس، كنت أريحياً، كريماً، شهماً نبيلاً، ولقد عايشتك عن كثب، ورأيت فيك ربما ما يجهله كثير من الآخرين. لقد كنتَ صاحب نجدة ونخوة.. وكنت صاحب كلمة وموقف.. وكنت شجاعاً في رأيك، صريحاً في قولك، تجاهر كثيراً بما تؤمن به دون خوف أو تردد.. وبدون تزلف أو نفاق.. وكنت بارع الكلمة، بارع الحضور تهيمن على المكان، والزمان اللذين تكون فيهما، فإذا تحدثت أنصت الجميع، وإذا حاورت أنصت الجميع، وإذا ألقيت شعراً أصغى الجميع.. ولم تقبل في يوم ما أن تكون مهرجاً.. أو سمسار كلام.. أما حكايتك مع الطلاب المبتعثين فهي طويلة لا يمكن اختزالها في أسطر وكلمات وتحتاج إلى أحاديث، وأحاديث.. ولكنك كنت تحبهم، تحاورهم، تمازحهم، تمازجهم، تفتح صدرك، وقلبك، ومكتبك لهم، وتدعم أنشطتهم، وكنت تدفع من جيبك للمحتاجين منهم، أو لمن أوقفت بعثته بسبب قرار أهوج، أو نظام أعوج.. وحين غادرت «لندن» تركت فينا ما يشبه اليتم..! لقد فقدنا الأحاديث المشتركة، واللغة المشتركة، والثقافة المشتركة.. فقد كانت بيننا مساجلات وقصائد ومطارحات أدبية.. بل وكانت بيننا اختلافات مشتركة.. كنا نختلف ولكنه ذلك الاختلاف الراقي المتعالي على الأهواء، والصغائر.. وإنما كان قائماً على البحث عن الحقيقة.. وظلت العلاقة بيننا وبينك موصولة.. فكنت بين الحين والحين تسأل عن الطلبة حيث كنت حفياً بهم، وتسأل عن المجلة الثقافية وكأنها مجلتك.. وحينما عدتُ إلى الرياض عرضت عليّ أشياء كثيرة، وأكرمتني، وكرمتني كرّم الله مثواك.. فهل أُلام أن أنعيك وأرثيك: لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك وقال أتبكى كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك فقلت له إن الشجا يبعث البكا ذروني فهذا كله قبر مالك * أبا سهيل لقد غادرتنا ومات جسدك ولكنك ستظل حياً بيننا، فأنت كما أسلفت رواية طويلة اكتملت فصولها بيوم رحيلك.. رواية مليئة بالأحداث، والابداع وستقرأها الأجيال جيلاً بعد جيل.. رحمك الله.. وحشرك في زمرة الأبرار، وجعل ما أصابك تمحيصاً، وتكفيراً، وأجراً.. ونستودعك رباً غفوراً رحيماً، لطيفاً بعباده.. ولله الحمد من قبل ومن بعد..