تختلف الأمور وتتباين وجهات نظر البشر في شتى أمور الحياة، ولكل مبرراته، ما عدا الحقيقة الماثلة أمام الأعين والتي يعيشها الجميع من خلال أقرب الناس إليه، لكنه يهرب منها في أمره مع نفسه، فلا يتصور أنه سيكون يوما هو المُترحم عليه، فحقيقة الموت لا يستطيع أن يهرب منها أحد، وحين يأتي موعد الرحيل يقف خط الحياة ويذهب صاحبه محمولا إلى قبره وفي داخله من الآمال ما كان يتمناه. وإذا كان الموت واعظا فإن هذا الرحيل الذي فاجأ د. توفيق محمود القرم الذي أعطى محاضراته لطلابه في نفس يوم وفاته، كما حضر جلسة مجلس القسم، وفي المساء أعطى المحاضرة المباشرة الثالثة لطلاب وطالبات التعليم المطور، ثم ذهب إلى ملعب كرة القدم لاعبا، وهناك حانت لحظة المغادرة من حياة فانية لأخرى باقية، ولا شك أن هذا الأمر يوجب على كل منا الاستعداد، فما دامت حقيقة وجودنا لا ينكرها أحد، فإن حقيقة المغادرة عن تلك الحياة الفانية لن يستطيع أحد أيضا أن يماري فيها. فليعد كل منا عدته.. فالسفر طويل... والناقد بصير.. والحياة تأخذنا إلى ما يبعدنا عن جوهرها الحقيقي فإنها فانية لا تدوم لأحد... ولأن القلوب مطمئنة بأن تلك هي إرادة الله الذي لا راد لقضائه، لا يملك الإنسان في مثل هذه المواقف وما أكثرها وأصعبها معا! إلا أن يقف مستلهما دروسا متعددة.. إن كل حي جاء سيغادر لكن متى وأين وكيف؟! عِلمها عند خالق هذا الكون القائل في كتابه: «إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير» يستطيع الإنسان من خلال التعامل مع المكان المرتبط بعمله أن يدرك أن للمكان طبيعة خاصة، فتقوم علاقة من نوع ما بينه وبين المكان الذي يمكث فيه ساعات طوالا، لهذا نجد الكثيرين يستشعرون بينهم وبين المكان أحاسيس تجعلهم يخاطبون بها المكان وفق الحالة النفسية التي يعيشونها، وحين يكون الإنسان متفانيا في عمله مخلصا فيه يشهد بذلك زملاؤه وطلابه، وثقتي أن الدكتور توفيق محمود القرم كان يحظى بحب وتقدير كل من تعامل معه، ولم يلتقِ أحد بهذا الرجل إلا ووجد نفسه أمام شخصية تتحلى بصفات متعددة، لعل من أبرزها الابتسامة التي لم تكن تفارق محياه، والعمق الواعي في تخصصه حيث يطرح عليك مجموعة من التساؤلات، ثم يبدأ يجيب في سهولة وعمق معا، لأنه يعرف كيف ينقل المعلومة للمتلقي؟!، ولقد انعكس خبر وفاته على طلابه وطالباته فقالت إحداهن في صدق مشاعر يؤكد ما يمثله الأستاذ الحقيقي لطلبته: لك حق علينا ما حيينا.. وذا عهد فخذ منا العهود فلن ننساك في دعوات يوم... وتبقى أنت في عمري خلود وما دام الإنسان قد أكرمه ربه بعلم ينفع به غيره، لهذا تكون منزلته عالية لكونه اتخذ العلم سبيلا له. فما أعظم أجر المعلمين الذين يقدمون للآخرين علما ينتفع به! فإذا كان الألم قاسيا لرحيل الفقيد فإن ما يخفف قسوة الفراق وألم الوداع ما كان عليه من عطاء علمي وحياتي. وما دام الموت حقا علينا جميعا فإن في موتك المفاجئ يا أبا مهدي الكثير من العظات.. فكما كنت في حياتك معلما تعطي الدرس تلو الدرس جاء موتك ليعطي كل المحيطين بك الدروس المتعددة، والله أسأل أن يرحمك برحمته الواسعة.