ارتبطت رؤية فايز خضور بانجاز جحيمها، وتمثال نارها، وتوحدها بالضفاف التي تشتعل عليها حرائق كونه ورموزه وأساطيره. هذه النزعة وسَمَتْ شعره ونقده وحياته، حتى لنخال كتابته "استعراضاً مأسوياً مكثفاً"، كما كتب عنه مرة، أورخان ميسر. كمثل الأعمال الكاملة لفجيعة قطبيه الذاتي والموضوعي، والمسافة الخائبة لعالمهما. أو هي بداية ونهايات الحدود، وهي تكتشف ملامحها أمام مرآة الأزمنة والأمكنة المفتقدة - مرآة اللغة وبراعتها ان تكون داخل الحياة وخارجها. حواره هذا، شهادة في نهايات قرن، من الصراع والدم والاختلال، كأنه يسعى الى ان يسمي، ما اشتبه عليه، من تسميات. وهو اذ يلخص كشف تجربته التي امتدت ثلاثين عاماً، استكمل خلالها بناء رؤياه وخيبته المعاصرة، وعذابات هي رجع صدى لقرون أَفَلَتْ. لماذا هذه الحرب الجائرة تصر على غزونا بمصطلحاتها، وتفرض، بالتي هي ألعن، مفرزاتها، فتهيمن علينا، وتعلن عجزنا عنا، بكل تطاوس الأقوى؟ ولماذا نقلبها، أو تتقبلها الغالبية، بمذلة أو استلاب، أو خنوع المنهزم اليائس. هل ثمة من إيضاح يساهم في انقشاع الغشاوة المفروضة من جبروت الأمر الواقع؟ - "أممية الإبداع" مقولة تعسفية، ارتجالية، لا حامل لها سوى البطر السلطوي: سياسياً كان، أو اقتصادياً، أو مذهبياً طوباوياً... الخ. لأن لكل أمة خصائص وجودية وبيئية وروحية، تدمغ الإبداع "بخصوصية" ذات علامات فارقة، ولا يعنينا في هذا المقام "كوكتيل الثقافات المعصرنة"، كوننا معنيين "بأصالة الهوية" المخصصة للابداع في كل أمة. وأما مقولة "العالم قرية صغيرة واحدة" فهي كلام "سياحي" يعود شأنه ومرجعيته الى شركات الطيران والسفر ووزارات النقل في البلدان، ونماذج من المثقفين الإلحاقيين الذين يقومون بدور "الدليل"... النقاد العرب القدماء عرّفوا الفنون و"الشعر" بصورة أخص: فمنهم من اختلف، وفيهم من ائتلف، وتلك حالة منطقية، موضوعية، ومشروعة. وها هو القرن العشرون، قد واريناه الثرى، ولم يقترف تعريف "الشعر العربي الجديد" أحد من النقاد "العرب" المحدثين، انطلاقاً من جسد النص العربي ذاته، وبمعزل عن إلباسه مفردات مستوردة تخص النصوص الاجنبية - لكونها مبتكرة لها ومنها - الأمر الذي يشوه النص العربي ويخونه في وقت واحد معاً. مع جزيل احترامنا للمثاقفة التي وصلت بغالبية النقاد والمثقفين المهتمين، الى التبعية والانضواء المهين. عندما تفد إلينا مصطلحات، وصرعات "موت الشعر" أو "ما بعد الحداثة"، أو... أو "بدائل المعلوماتية"... الخ. تصلنا بعد "موتها" في الغرب، بما ينوف على نصف قرن. وتكون بحد ذاتها "عرض حال" لما وصل اليه واقع الفنون "هناك".، فما شأننا نحن العرب، وما شأن شعرنا في "وراثة الكفن" الذي يخص اللغات "الأنكلو - سكسونية"، وما يتعرض له الشعر "هنالك". ولماذا هذا الإقحام الإكراهي في توزيع "التركة"؟ هذا الإقحام غير الشرعي، وغير المنطقي، وغير الأخلاقي ايضاً. أم أن الاستعمار العقلي - النفسي، أ ضحى ينوب مناب الاستعمار الاستيطاني، أو أنهما شريكان في رحلة صيد واحدة؟ هذا مع إقرارنا بتشابه وتقارب بعض تجارب الشعوب... لو عدنا الى موضوعة تعريف الشعر العربي الجديد، وضيقنا الخناق قليلاً هل يمكننا ان ندخل الألفية الثالثة، ونحن نستأنس بتعريف توصيفي مكثف حديث لشعرنا الجديد؟ - التقليديون مرتاحون الى تعريف "عمودهم الشعري" كما ورد أفضل وأدق ما يكون لدى أجداد الكلاسيكية العربية من أمثال: الجرجاني وابن جني والقرطاجني... وغيرهم... ولهذا تجد هؤلاء التقليديين إذا لم يشاؤوا إبداء الرأي الصريح - الذي هو شتيمة للجديد - وبكل تأكيد، فإنهم يتملصون هرباً من المجادلة والمحاورة ليقولوا: "الشعر هو الشعر كيفما كان شكله"، وأنتم تلاحظون ان هذا القول يحمل هشاشته وغباءه فيه، لكونه يخلط الشعر بالشاعرية، والشعر بالشعرية، من دون الأخذ بمجمل الاعتبار للعلاقة التواشجية بين الشكل والمضمون، هذه العلاقة التي تمنح "الجنسية التوصيفية" للنص، من خلال مقومات صياغته التعبيرية، كأدوات تلبس فكرته ورؤيته ورؤياه. وأما أصحاب ومريدو القصيدة الجديدة "التفعيلية الحرة" فإنهم مترددون، ومشتتون، ومعظمهم متمسك ببعض الكتب "التنظيرية" والآراء العجائبية التي أصبحت أسوأ من التقليدية ذاتها، وطارئة ايضاً. ومنهم من حاول التوفيق بين التراثية العربية والمدارس والاجتهادات الغربية - وهؤلاء أُلحقهم "بالفرانكفونية"، وأرفضهم. وأما كتاب ومروجو "قصيدة النثر" فإن مأزقهم أشد وعورة، وأكثر بلبلة، للاشكالية الكبرى الواقعة في اطار المصطلح ذاته. وأعتقد ان الزمن القادم سوف يعقلن هذه المشكلة ويقترح لها حلاً جمالياً لائقاً، وتسمية منطقية... بعدما تقدم أصل الى إقصاء التزمت السلفي الأحادي الرؤية والدلالة، للتقليدية الفنية - الفكرية، من دون ان أنبت، أو اغترب عن الجذور التراثية "الحية"، وما يصلح منها ليكون أساساً للاستمرار الأجدى والأجمل والأجل. حيث تتجلى هذه الجذور في صيرورة شرعية وحقيقية للنظام التفعيلي في شعرنا الجديد. وما يخص "النثيرة" فلن أجنح إليها، وسأبقى متحفظاً على البت بكينونتها، ولها نصيبها من الحرية كما لغيرها من الصياغات التعبيرية... عقب انقراض نصف قرن، ما يهمني بتأصيل أعمق جذرية، وألصق تمسكاً، هو كيف أفهم مقومات التشكيل التفعيلي للقصيدة أو النص، وكيف أتبناه وأتعامل به وأعمل عليه. أسألك، قدر استطاعة إدراكك للفائض من "السِّر" في العمل الفني، ما الشعر، كيف يتكوّن هذا الحامل دهشة الخلق وفضول الطفولة الأزلي؟ - الشعر شبابة للحنين، وليس حنيناً. انه سؤال توالدي دائم التجدد، يقترح ولا يجيب أو يزعم ذلك. ليبقى مرتبطاً بحركة الوجود، وفاعلاً فيها، وكامناً طي نسيج مكوناتها، ومعطياتها، وخارجاً على "بدائل" قيافاتها الاستهلاكية التسليعية الطارئة. فهو الرائد المعرفي لقوتها: المادية - الروحية، بدءاً بمحراث الإله الأول - في الأسطورة - مروراً بالمكننة وانتهاء بحرب النجوم المتأرجحة بأنشوطة "العولمة"، فوق مصفاة العدم، المتربصة بحرية الاستقصات: الماء والهواء والنار والتراب، المتمترسة في مخيلة المبدع. الشعر هو السائح المقيم في اشراقه الجوهر، من دون ان تغويه "مراجل الاختراعات، والألوان المستنسخة"، لكونه "إرادة"، وسيلتها التعبيرية تتناسل من غايتها الوجودية، بعيداً عن أي مرتسم هندسي، أو معادلة رياضية... فالشعر قد يضمر وقد يتوارى وقد يتحيد، وقد يُعدم... ولكنه لا يفنى... فاضمحلال فاعلية الشاعر، أو انحساره لا يعنيان موت الشعر، أو الإقلال من جدواه، لأنه يمتلك في تشكيل بنيانه حقيقة بقائه، وحتمية استمراره، واستحالة الاستغناء عنه... الشعر "كائن" يتجلى في متعدد، كما هي الحال في مفهوم "الانسان - المجتمع" ولهذا لا معنى لافتراءات إمكان موته. وكل مماحكة في هذا الأمر عبث وإضاعة لعطر الوقت، وجلال "الهنيهة". وقد سبق "كلام" الفلاسفة الى هذا الهدر، حين تطاول طموحهم الحالم - المكظوم، كي يصير كلامهم "شعراً"، ولم يصرْ. كذلك أرهص "الإيهام العلمي" بعلمنة الوهم، كي تصبح "الروح" رماداً ورفاتاً لوشيعة الأحساسيس والرؤى، التي تساهم في سريان النسغ لهذا "الكائن". فخاب مسعى ذلك الارهاص، حيث بات ولم يصبح! لا لشيء، إلا لكون الشعر يتمحور مع "جبلة الحياة" الحيوية، ضمن مجازات الأزمنة، منذ ان تواضعت الجماعات على مدلول "زمن الظل"، مروراً بالتوقيت "الرملي"، وقوفاً عند ميقاتية "الجزيئي اللانهائي للثانية"، تمادياً مع "الزمن الضوئي" أو "الوهلة المجازية" التي تتعاطاها الفنون الخلاقة عموماً، نفوراً من "الزمن التأريخي المنجز" و"الدهرية المطلقة" اللذين تتداولهما "بنوك المعلومات" وحافظات الوثائق و"ثلاجات الجثث"... الخ. على أية هيكلية يقوم هذا الشعر، وما مقومات وجوده؟ - 1- "باللفظة" يبتدئ البنيان. بتفاحة المشتهيات الأولى، بلبنة الأساس، تنكشف مهابة الهيكل، لتفصح عما يليها، فاضحة جمال القادم، وجلال إدهاشه المتمور في "الصورة". 2- هذه الصورة التي توحي ولا تؤطر، وتدل ولا تحدد، روعة إبداع ما سيكون. 3- وقتها تتهادى غيوم وأمواج "الموسيقى" منسربة في حنايا اللفظة رعاشة لخصر الصورة، فتنجلي "الحالة" عن ثلاثٍ في كيان واحد. 4- تتكاثف معاً، بحساسية تتفاوت ما بين مبدع واخر: عمقاً وشفافية، ووعياً متحرراً ورصيناً، واقعاً معيشاً واستشراقاً، للنهو ض بالفكرة - المناورة، المبتغاة، ملحمة كانت أو إيماضة. حيث ينبلج "التشكيل"، النص - الجسد، المعافى أو العليل، أو المحتضر، أو المشوة... 5- بعد ذلك يتسارع التوهان، والرفض أو الرضا، ما بين المبدع والمتلقي، عبر الحلم والوهم، والزرع والحصاد، والأفعال والنوايا... وتبقى المعرفة شاهداً وشهيداً في ساحة الصراع. إضافة الى ما تقدم، ندرك ان الشعر يكشف معماره، ويُضمرُ "سره الفني". هذا السر الذي "يحسه" المبدع بذهول، ولا يملك صيغة محددة "لتوصيفه". والحال ذاتها لدى الملتقي، ولكن بحساسية أقل. وهكذا تستكمل الدائرة، ويتدفق الدوران. أين موقع النصوص الشعرية الملحمية، والحواريات ذات النفس الدرامي، والقصائد الطويلة - الذاتية والموضوعية - والقصائد الغنائية متعددة الإيقاعات، والقصائد القصيرة التي تعبر عن حالة أو مصادفة أو مفارقة أو ومضة؟ - تلك أشكال صياغية في إرادة الشعر، تقترحها طبيعة التجربة لدى المبدع. وهي من تجليات الجوهر الشعري، وتشكيلاته الفنية. وهنا تتدخل المهارات المميزة، ما بين مبدع وآخر. أي "الخصوصية التعبيرية" المتألقة في مضمار الفكرة المرجوة. لأن "السر" في العمل الفني لا يدرك قشعريرته إلا من أوتي من رحم الطبيعة - الأم "موهبة" مجدولة بمشيمته. وما تقدم لا يتأتى بالعلم والتحصيل والدرّبة والخبرة والتجربة والمعاناة... فهذه كلها، أدوات معرفية تحتاج اليها "الموهبة" كي تتألق وتتطور، وتتغاوى بفذاذتها وأهميتها: أي يتباهى العالم بوجودها.