} تجددت المطاردات، أمس، في جرود الضنّية شمال لبنان بين الجيش اللبناني والمسلحين الذين عمدوا في وقت لاحق الى تصفية الضابط الذي كانوا يحتجزونه رهينة، وهو المقدم ميلاد النداف، وكانت عملية التعقب والاشتباك مع المسلحين ادت الى مقتل اربعة جنود ما رفع عدد ضحايا الجيش الى عشرة فيما ارتفع عدد المعتقلين من المسلحين الى 45 مسلحاً وتم احصاء اربعة قتلى منهم كما أعلن الجيش. الرحلة التي كانت مديرية التوجيه في الجيش اللبناني تنوي تنظيمها للصحافيين الى المناطق التي سيطر عليها الجيش في قضاء الضنّية ألغيت بعد أن وصل الإعلاميون الى ثكنة القبّة في طرابلس. فالمسلحون الذين كان يطاردهم جنود الجيش اللبناني في جرود الضنية وجبالها الوعرة والمتداخلة، هبطوا في اول المساء الى قرى تقع في اسفل الجرد، قطعوا حتى وصلوا إليها مسافات تفاوتت بين 25 كلم و40 نزولاً باتجاه طرابلس ووصلوا الى بلدتي مرياطة وكفرحبو الواقعتين في اسفل المنحدر الجردي. وهناك في طرف بلدة كفرحبو دخلوا الى منزلي الشقيقين جان وجورج يزبك الواقعين جنوب شرق البلدة واحتجزوا عائلتي المذكورين، علماً أن الأول هو رقيب في الجيش اللبناني وتمكن من الإفلات من المسلحين ولكنه أصيب أثناء فراره. وفور معرفة ابناء البلدة بخبر وصول المسلحين إليها اتصلوا بالجيش اللبناني الذي استقدم تعزيزات الى البلدة، ودارت اشتباكات بينه وبين المسلحين سقط للجيش فيها اربعة جنود وعدد من الجرحى فيما لم تعرف الخسائر بين المسلحين المتطرفين. وارتفع عدد شهداء الجيش منذ بدء العملية الى تسعة، وعاد وارتفع الى عشرة بعد الإعلان عن العثور على الضابط المقدم النداف الذي كان محتجزاً لدى المسلحين، مقتولاً وممثلاً بجثته. وبلدة كفرحبو التي ترتفع عن سطح البحر نحو 350 متراً، تعتبر من اكبر البلدات المختلطة في وسط قضاء الضنية، وتزيد مسألة اختلاط الطوائف فيها من دقة عملية احتجاز عدد من ابنائها وحساسيته خصوصاً ان المحتجزين هم من ابناء الطوائف المسيحية. الطريق الى كفرحبو صباحاً كانت حذرة جداً، وكان عناصر الجيش المنتشرون بكثافة على الطريق المؤدية الى البلدة وإلى قرى قضاء الضنية الأخرى في حال تأهب قصوى، الى حد قد تتحول الدورية الراجلة عند اي حركة الى تشكيل قتالي يعطل الحركة ويمنع المرور، فيما كانت سيارات الاسعاف تذرع الطرق ذهاباً ومجيئاً الى المستشفى الحكومي في طرابلس. وقد اسهم في تعسر الموقف سوء الأحوال الجوية، فتردد ان الضباب الكثيف عرقل رصد المسلحين وتعقبهم. وفيما منعت قوى الجيش الجميع من الاقتراب من موقع تمركز المسلحين المحاصرين في اعالي كفرحبو تجمع عدد من ابناء البلدة في منزل رئيس البلدية ومن هناك راقبوا سير العمليات في بلدتهم. وتحولت في هذا الوقت الساحة المقابلة لمنزل رئىس البلدية الى ما يشبه غرفة عمليات للجيش اللبناني الذي سُمع ضباط منه يطلبون من قيادتهم مزيداً من الذخائر والأسلحة وسط احتدام الإشتباكات. عدد من الأهالي أكدوا انهم سبق وشاهدوا المسلحين في البلدة ولكن من دون اسلحتهم وأن طرقاً فرعية محيطة بالبلدة كان يعبرها هؤلاء بسيارات رانج روفر، كما قال بعض الاهالي ان معرفة المسلحين بالطرق الجبلية تؤكد ان بعضاً من اهالي المنطقة هم من بينهم. سكان الحارة السفلية في كفرحبو تجمعوا امام منازلهم مترقبين ومنتظرين نزول اقارب لهم من الحي المحاصر. وتحدثوا عن ان عدد المسلحين يقدر بنحو 50 عنصراً وأنهم متوزعون على المنزلين، ويتحصنون خلف خزان كبير للمياه بني حديثاً قربهما وأن من بين المحتجزين سيدة حامل هي زوجة جان يزبك الذي اثار فراره من المسلحين مزيداً من المخاوف لدى ابناء البلدة على زوجته، فيما منع الضباب شباب البلدة من مراقبة ما يجري في منطقة الخزان من سطوح منازلهم. ثم عثر لاحقاً على جثتي الزوجة الحامل ووالدتها بعد ان قتلهما المسلحون. وكان مدير التوجيه في قيادة الجيش اللبناني العقيد الياس فرحات أبلغ الصحافيين انه القى القبض على نحو 45 مسلحاً معظمهم من اللبنانيين وثلاثة منهم فلسطينيين شاركوا في المعارك الأخيرة، وأن محاصرتهم في جرود الضنية أدت الى توزعهم فرقاً صغيرة انتشرت على غير هداية في الأحراج الكثيفة، وهذا ما يجعل مهمة تعقبهم صعبة، إذ ما يقوم به الجيش والحال هذه ليس عملية عسكرية تقليدية وإنما ملاحقة افراد هائمين في الأحراج. وقال فرحات ان "تمّ القضاء على البنية اللوجستية والعملانية للمسلحين الخارجين على القانون في مناطق عصرون وجبل النجاص وجبل الأربعين في جرود الضنّية، وأن العملية تتركز على ملاحقة فلول المسلّحين الذين فرّوا مجموعات من عنصرين أو ثلاثة في الأودية والأحراج". وأكدت مصادر الجيش ان وجود مخابئ اسلحة في مواقع المسلحين التي تمت السيطرة عليها وأجهزة اتصال ومواد غذائية، خصوصاً في جبل النجاص يؤكد ان غرفة عمليات كانت قائمة هناك، خصوصاً انه تم العثور على كميات كبيرة من الأسلحة تمت مصادرتها من كهوف في المنطقة. وتفاوتت تقديرات الجيش اللبناني لعدد المسلحين بين مئة مسلح ومئتين. وألمحت قيادة الجيش الى ان ثمة وسطاء يحاولون اجراء اتصالات بها ولكنها اعلمتهم بأن ليس امام المسلحين سوى تسليم انفسهم مهما استمرت عملية تعقبهم. وعلم ان الوسطاء هم مسؤولون في بعض التنظيمات الإسلامية في مدينة طرابلس. وبعد انتقال المعارك من أعالي جبال الضنية الى سفوحها، كانت الحركة تعود شبه طبيعية الى قرى الجرد هناك حيث اقام المسلحون منذ اشهر او منذ سنوات، فلا التواريخ حاضرة في اذهان ابناء هذه القرى ولا الوقائع اذ تتضارب رواياتهم عن المسلحين وهم في حال من الإرتباك تحول دون تقديم قصة منسجمة عن هؤلاء المتطرفين. ويبدو ان لوجود المسلحين او كما يسميهم ابناء المنطقة "حزب السلفية" مستويين: الأول أهلي محلي يتمثل بوجود تقاطعات ما زالت غير واضحة بين السلفيين وبعض سكان المنطقة، اذ انتمى عدد من ابناء بلدة عاصون اليهم وانشق آخرون في بلدة سير عن حركة التوحيد الإسلامي وانتموا الى طريقتهم. ويدخل ضمن نطاق المستوى الاول الوجود الكثيف للجماعة الاسلامية في بعض القرى كبلدتي سير والسفيرة ما يؤكد توافر بيئة اجتماعية غير معادية على الاقل لمظاهر وجود حركات اصولية وإن كان عناصرها غرباء عن المنطقة. اما المستوى الثاني لوجود الجماعات السلفية المسلحة، فهو تواجدهم المباشر الذي بدأ يشعر به الأهالي منذ نحو سنة، وإن كان حذراً ولا تحصل تحركات لهم إلا في الجرود ويقتصر عبورهم القرى على اوقات المساء او في ساعات الصباح الأولى. فيقول مروان البردوع وهو صاحب متجر في بلدة بقاعصفرين ان اثنين منهم قصداه قبل شهر ليلاً واشتروا خضاراً وحاجيات وأنهما كانا ملتحيين ويرتديان الأثواب الأفغانية وأن لهجتهما طرابلسية. وروى صياد من البلدة انه كثيراً ما يصادفهم في الجرد اثناء ذهابه للصيد وأنهم كانوا يطلبون منه عدم الإقتراب منهم. وقال انهم يقيمون في خيم نصبوها في الجرد وأن اعدادهم لم تكن ثابتة، اما مغادرتهم الجرد الى البلدة لشراء الحاجيات فكانت تتم عبر سيارات رانج روفر بحوزتهم، وأن اسلحتهم الفردية كانت تظهر للعيان. اهالي بقاعصفرين الذين نفوا بشدة وجود فرع "للحزب السلفي" في بلدتهم، اكدوا ان طرقاً فرعية كان يفضل هؤلاء استعمالها لشراء حاجياتهم، وأكدوا ان كل من صادفوهم من المسلحين كانت لهجاتهم لبنانية. ولفتوا الى ان في الشهر الفائت حصل تطور في علاقتهم ب"ثوار" الجرد إذ دأب هؤلاء الأخيرون على منع المزارعين من الذهاب الى حقولهم القريبة من خيمهم وأطلقوا النار اكثر من مرة عليهم، وفي حين اكد الجميع على عدم معرفتهم بقنوات الاتصال بهم اشار بعضهم الى ان اتصالات حصلت مع بعض القيادات لتأمين ذهاب الأهالي الى حقولهم. يبدو واضحاً للمتجول في قضاء الضنية على رغم كثافة الضباب ان تفاوتات كبيرة يشهدها هذا القضاء سهّلت لجوء المسلحين اليه، فيبدو ان الغياب الأمني الرسمي لم يكن وحيداً. فالمنطقة التي يتجاور فيها غنى الطبيعة ووعورتها مع فقر وبؤس عام يكاد لا ينقطع عن عيني الناظر العابر في تلك القرى لولا بعض القصور العملاقة التي تتوسط جدار الإسمنت المتصل من جراء كثافة السكن والبناء، والتي يشعر من يشاهدها ان لعملقتها علاقة شديدة بالبؤس والفقر المجاور. وينغص ايضاً المشهد الطبيعي البكر في القرى، ابنية عملاقة يسكنها فقراء حوّلوها الى ما يشبه ضواحي المدن الفقيرة. ووسط هذا السكن في القرى تنتشر صور لمشايخ طرابلسيين، كالشيخ حسن الشهال والشيخ سعيد شعبان. الى هناك صعد النقشبنديون قبل نحو شهر هرباً من كوارث توقعوا ان تحصل اثناء الانتقال الى القرن الجديد، ولم يجدوا ضالتهم، وإلى هناك ايضاً يرسل مشايخ كثيرون أناساً من مشارب مختلفة للإقامة والسكن، وكان آخرهم رجل ألماني جاء برفقة مشايخ الى بلدة بقرصونا حيث استأجر منزلاً من آل شندب وقال انه نقشبندي يتبع طريقة الشيخ ناصر القبرصلي ودفع لصاحب المنزل بدل ايجار لمدة سنة ما قيمته ألفي دولار اميركي، واشترى فرساً وراح يجوب الجرود فيها. وروى ابناء البلدة عن مشاهدتهم له يشتري كميات من مواد التموين قال انه سيوزعها على الأهالي حين تحل الكارثة ولكنه وقبل حلول شهر رمضان بأيام قليلة اعلم صاحب المنزل انه مضطر الى السفر الى تركيا لقضاء شهر رمضان هناك تاركاً خيله ومواد التموين في منزله المستأجر. وحلّت الألفية على الضنية في غيابه. ولكن صاحب المنزل الذي قام بمراقبته ليلاً ونهاراً كما قال، أكد انه لم يلاحظ اي تصرف غريب بدر من جاره الألماني وقد لا يكون لهذا الألماني علاقة بما حصل ولكن حكايته تؤكد تحول المنطقة ملجأ لظواهر دعوية مختلفة. لا يحفظ ابناء الضنية اسماً ثابتاً للطافرين في جبالهم، فتارة يسمّونهم "جماعة التكفير والهجرة" وطوراً "حزب السلفيين". وعلى رغم تأكيدهم أنهم غرباء عن المنطقة فان ثمة اشياء لن يقولوها عنهم إلا بعد ان تهدأ النفوس، لأن زائر المنطقة لا بد له ان يلاحظ ان ما يمنع الأهالي من البوح بالكثير من المعلومات هو حال الإرتباك الشديد التي يعيشونها حالياً.