وينتهي الساخر الايرلندي الكبير بتأثير من نزعته "الفابية" المعروفة إلى المناداة بتأميم "هارلي ستريت" وإلغاء "الممارسة" الخاصة للطب، وتنصيب الطبيب "خادماً" عاماً مكرماً يتقاضى من الخزينة العامة أجره العادل. كان طبيب "الخدمة" العامة هو "المخلص" الذي بشر به برناردشو جميع المرضى والمتألمين. تلك الجموع التي كانت تعاني - حسب وجهة نظر الايرلندي - من تغلب النزعة الربحية على أطباء الممارسة الخاصة حين يتعاملون مع آلامهم ومعاناتهم. ولا يبدو أن برناردشو كان يساوره شك في أن الطب الحكومي أو "الميري" سيتحول في كثير من دول العالم، وربما في بريطانيا نفسها، إلى "أكوام" من القواعدالغريبة، والإجراءات المعقدة، والإداريين المثبطين، والأجهزة العاطلة، والمباني المهترئة، والأموال المهدرة، وجمع من الأطباء الذين يحتويهم "الرداء" الصحي المتمدد فيتعثرون فيه، ويتعرقلون به وينشغلون في خضم بلبلته بأنفسهم، فيوشكون أن يفقدوا الهدف الذي من أجله وجد النظام وفي سبيله انتسبوا إليه. ولو قدر لبرناردشو أن يعيد كتابة مسرحيته في ضوء تجربة الأنظمة الصحية العامة خلال السنوات الخمسين الماضية لربما أكد أن المعضلة الحقيقية هي معضلة النظام الصحي وليست معضلة الطبيب. فلن يستطيع أفضل الأطباء وأمهرهم إلا أن يشعر بالإحباط وخيبة الأمل حين يرى قدراته وفعالياته ونياته الحسنة... "تغتالها" تثاؤبية البيروقراطيين وعدم اكتراثهم، وتفننهم في تعقيد الإجراءات وتطويلها. وإذا كانت "الرياضة" السائدة هذه الأيام هي رياضة القفز فوق جدار الأطباء المنخفض، فلعله يجدر بنا أن نتذكر أن وراء كل طبيب سيء صفوفاً من الإداريين الأكثر سوءاً، ومجلدات من "الوصفات" الروتينية العقيمة، وطوابير من "البنود" النافذة... الجامدة. إن النظام الصحي الفعال هو الذي يتيح للعاملين فيه - من أطباء وغيرهم - أن يحققوا ذاتهم، وينمّوا قدراتهم، ويعمّقوا احترامهم لأنفسهم ومهنتهم ومرضاهم. وفي غياب مثل هذا النظام سيتحول حتى الطبيب "الشرْبات" إلى طبيب "فِسيخ".