اغاني "المهد" او "هدهدة" الطفل، تمثل في التراث الشعبي المصري قيمة اجتماعية واخلاقية وسلوكية تسهم في نمو وعي الطفل اجتماعيا وثقافيا ودينيا. وقد اجرت الباحثة المصرية يسرية مصطفى دراسة مهمة عن المرأة واغاني هدهدة الطفل، والتي خلصت منها الى ان الاغنية بما يتوفر لها من عناصر النغم والايقاع تمتلك طاقة تأثير فائقة. فحين تغني الام لطفلها، فانها لا تسليه وتؤنس وحدته فقط بل تعبر عن مشاعرها واحاسيسها نحوه، والبوح بمكنونات نفسها والكشف عن همومها ومشاكلها. وتقول الباحثة إن هدهدة الطفل تخرج عابقة بكل احاسيس الامومة. وكما يقال ان "الحاجة ام الاختراع" فالامومة الفياضة تجعلها خلاقة مبدعة، تخرج بأداء بسيط يتسم بايقاعات موسيقية تجذب اذن الطفل، وغالبا ما تبدأ بكلمة "هوووه". وتضيف :"اغاني المهد تكشف عن عمق احساس الام، واثر ابنها في حياتها خصوصاً اذا جاء بعد صبر وطول انتظار، ومنها ما يقول: يا ولدي اللي ولدته في حساب الفول وجبته ولا بطني وجعني آل ولا ضهري شكيت به يا عطية ربنا ياهبة الصابرين ياوليدة بعد كبر ياعشاش عالسجي... فالام تصف فرحتها بمولودها، وكيف انها لم تشعر بمتاعب الحمل، ولم تشتك منه، فالفرحة افقدتها الاحساس بالالم، لا سميا بعدما تعرضت للمعاناة واتهمت بالعقم. ولا تغفل ان اهل الريف ترتبط حساباتهم بمواسم الزراعة، فمثلا الزواج يتم في موسم القطن، والحمل في موسم كذا، كما ورد في الاغنية في حساب الفول. واغاني المهد عامرة بأدعية الام لله كي يطيل عمر ابنها ويجعل فيه البركة كما تتمنى ان يوسع رزقه. وتؤكد الباحثة أن اغاني هدهدة الطفل تمثل قيمة اجتماعية واخلاقية وسلوكية، وتعكس بعدا اجتماعيا غير مباشر، وتكشف عن رؤية المجتمع. فمن الاغاني ما يعبر عن موقف المجتمع الذي يفضل انجاب الذكور على الاناث، فهم وسيلة الآباء الى الخلود ودوام الذكر بعد الموت، كما انهم دعائم العصبية والعزوة، وستحقق بكثرتهم الهيبة والمكانة الرفيعة في المجتمع، كما ان انجاب الاطفال الذكور يعمل على تدعيم مكانة المرأة في بيت الزوجية، ويرفع من قيمتها في نظر المجتمع. وهناك الكثير من الاغاني التي توضح فرحة الام بالذكر، كما هناك أغاني تدعو على الحساد الذين اغتاظوا لمولد الذكر. وعلى النقيض من ذلك، نجد ان عددا من الامهات يجدن الذكور مثل الاناث، ونجد الام تشكو المجتمع واجحافه لأمومتها: لما قالوا دي بنيتة طبقت الفرن عليا وجابولي البيض بقشره وبدال السمن ميه حيث تتصور الام ان البيت قد انهدم عليها، اما اهل المنزل بمجرد سماعهم انها انثى، لم يجدوا اي رغبة في تقديم الطعام لها كما ينبغي، فالبيض قدم بقشره، بل انهم بخلوا عليها في تقديم الطعام بالسمن فاستبدلوه بالماء، وهذا تعبيرعن عدم رضاهم وعدم تقبلهم للانثى. وتشير الباحثة الى انه من اغاني الام ما يعبر عن شعورها بالخوف من المستقبل ومن زوجة الابن المنتظرة التي ستأخذ الابن الحبيب بعيدا عنها ومنها: لما قالوا ده غلام قلت ياليلة ضلام اربي واكبر ويخدوه مني اللئام ومنها ايضا: ياحبيبي يامواعدني قعدت عمري استناك وكبرتك وربيتك وجت تاخدك مراتك مني والام هنا قالت "مراتك" ولم تقل عروستك، وهو لفظ يعبر عن انفصال الام عنها غضبا. وتنتقل الباحثة في دراستها الى اغاني الصباح التي تستقبل بها الام مولودها وهي تزخر بالتفاؤل والصور المفرحة ومنها: صباح الخير صبحنا والرز باللبن طبخنا صباح الخير وانا بقول يارب يزيد العمر ويطول وفي الامنية نجد اختيار الرز باللبن تحديدا لأنه من المآكل العذبة التي تقدم دائما في المناسبات السعيدة، كماانه مفيد من الناحية الصحية. ولا تخلو هذه الاغاني من اهداف تربوية، الغاية منها تعليم الطفل وتعويده النطق والكلام او المشي، وذلك بمحاكاة امه التي تغريه بتقليدها، فتدعوه ان يخطو نحوها، وتمد ذراعيها اليه وتمسك يديه فتغني له: تاتا تاتا خطي العتبة تاتا الله يعينه تاتا يا ظهر الفول تا تا باسم الله يطول تاتا يقع ويقوم تاتا خطى العتبة... وحين تبدأ اسنان الطفل في الظهور تفرح الام، وتغني له: طلع سنه طلع سنه خبي العيش منه طلع سنه طلع سنه خبي الطبيخ منه... وتؤكد الباحثة يسرية مصطفى ان "اغاني المهد تساهم في ارتباط الطفل بالتراث اذ تحمل في طياتها افكارا ومعاني ومعتقدات المجتمع الذي ابدعها ووضع فيها مشاعره وطريقة تعامله مع الصغار، واحترام الكبار، وايثار الترابط العائلي". وتضيف: "ليس هذا فحسب، بل ان الاغنية الشعبية التي تؤديها الام هي اداة اولا لتسلية طفلها وثانيا وسيلة لتنبيه الطفل الى ما حوله، ومحاولة التعرف اليه والتواصل مع المحيطين به".