يكتب الشعراء قصائدهم لتُقرأ ويكتب لوركا قصائده لتُغنّى، لتهدهد بها الأمهات أطفالهن تحت مراقبة القمر، لتطرد عنهم أشباح الليل وتتمنى لهم الحياة العادلة، لوركا شاعر الحرية والمقاومة والنضال أراد أن يحبه الجميع من خلال شعره فمات في القصيدة، كان يُحسن الاستماع لأغاني الأمهات ليكتبها، ليورثها للصغيرات اللاتي يُسكتن الدمى بغناء متقد العاطفة، يحب الليل أن يأتي ليسمع المزيد حين تغادر كل الأصوات، صوت غناء الأم لا يغادرنا، وحده الصوت الحساس يثير انطباعاً مرئياً نجده في أحلامنا حين ننام "نوم التفاح". كتب "الأغاني الغجرية" ليجدد روح الشعر في الناس، كان لوركا ينشد قصائده لتحفظها الأمهات، فالعاطفة الغنائية كانت تبلغ فيه مبلغاً لا يصلها معظم الشعراء، إذ يرفض عزل الأغنية عن الشعر، فالشعر –بإيمانه– حتى يُسمع لابد أن يُغنى، وليس هناك أعذب من غناء تؤديه أصوات هادئة وبعيدة كأشجار الصنوبر مثل أصوات الأمهات. ومثل أي موروث شعبي "شفهي" ينتقل بالقصص أو الغناء، تحتفظ أمهاتنا بملامح أغانينا الشعبية متفقة كلها بألحان متقاربة، وبرتابة مقصودة ننام على "طير الحمام" الذي يخفض جناحه فوق أعيننا بحنان يطمئننا من خوف مرحلة الانتقال، تقول أغانينا أشياء جميلة عن اللعب في القرية، والعروسة، والكعبة، والابن البار، وعن عين الله التي تحرس الأبناء، تختلف الكلمات وتتشابه جملتها اللحنية: "دوها يا دوها.. والكعبة بنوها سيدي سافر مكة.. جاب لي زنبيل كعكه" أغاني الهدهدة من نظم الأمهات، لا يحتفظ أحد بمثل بياض الكلمات كما يفعلن، وما من شبر على وجه الأرض إلاّ وأم تهدهد طفلها بغريزتها الفطرية إلى أن يذعن للنوم، صحيح تختلف الثقافات والعبارات في أغانيهن ولكن تتشابه في الألحان وروح الأمومة الواضح في انسيابها الهادئ ومعانيها اللطيفة، من يتذكر أغنية فيروز"نامي نامي يا صغيرة"؟، أغاني الطفولة مجاراة لأغنيات نساء القبيلة وحكواتهن، إنها تتضمن غالباً عبارات الفخر والحماسة أو تخفيف حدة الأزمة (الجوع، والظمأ)، وقد يسرحن بعفوية شفافة ويغنين عن وجع الفقد أو الدعاء بتحقيق أمنياتهن الخاصة، أو أمنيات العمر المديد لأطفالهن، كما تغني الأمهات الفلسطينيات: طلّ القمر من شرقا ومغزغز ريش يالولد حبيب امه ويا ريته يعيش طلّ القمر من شرقا ويا حليله طلّ والولد حبيب امه ويا ريته يظل يمرّ ليل طويل ينامه الأطفال بأكمله، النوم وصوت الأم لا شيء يفصلهما عن بعضهما، إنها تضيع في القلب تنتظر من يجمعها في قصيدة ليعيد غناءها مرة أخرى.. ماذا كنا سنفعل لولا لوركا، كيف سينام الأطفال؟