صلوات الاستسقاء التي أدّاها اللبنانيون قبل نحو شهر، بعد تأخر المطر، لم تذهب سدى. فالمطر جاء غزيراً، ولو متأخراً، والعواصف بلغت أوجها في سرعة تكاد تصل الى مئة كيلومتر في الساعة. الشوارع، وخصوصاً في المدن، تحوّلت بحيرات وبركاً كبيرة سبحت فيها سيارات كثيرة بركابها. سيول غمرت لبنان من أقصاه الى أقصاه، ومن شرقه الى غربه حيث اتصلت بموج البحر وعطّلت معظم الطرق الساحلية وبخاصة في بيروت ومدخليها الجنوبي والشرقي، حيث غرقت أنفاق بعض الأوتوسترادات بالمياه فيما صعب سير السيارات على الكورنيش البحري للعاصمة فضلاً عن عدد كبير من شوارعها الداخلية. موظفون كُثر لم يصلوا الى مكاتبهم وهكذا التلامذة الذين أصيبوا وأهاليهم بإرباك بعدما صدر ليل أول من أمس قراران متضاربان عن وزير التربية محمد يوسف بيضون، عطّل الاول الدراسة يومين، وألغاه الثاني. إنهيارات وجرف أتربة في مناطق متفرقة وجرح مواطنين فيها، وأضرار جسيمة في المزروعات اضافة الى انقطاع التيار الكهربائي في معظم المناطق اللبنانية. وعلى رغم ذلك، فان كمية المتساقطات التي هطلت على لبنان، منذ بدء الشتاء، بلغت 230 في البقاع و300 ملم في بيروت في حين ان المعدل العام حتى كانون الثاني يناير يبلغ نحو 360 ملم والمعدل السنوي العام 825 ملم. فقد أغرقت مياه الامطار الغزيرة، على رغم كل الاجراءات الاحترازية وحال الاستنفار التي أعلنت، عدداً من المناطق وحوّلت الشوارع بحيرات عجزت مجاري المياه عن استيعابها. وفي بيروت تحوّلت الشوارع أنهاراً جارفة من دون ضفاف وغمرت المياه الارصفة وتسرّبت الى مئات المحال التجارية ومداخل الأبنية وبعض المستودعات والسجون، ومنها سجن قصر العدل. وأدت الى إنهيار أحد جدران مبنى "مكوك" في محلة البسطا الفوقا. وقال قاطنو المبنى ان "مَن جاء من البلدية طلب من العائلات التسع التي تقطنه إخلاءه، من دون تأمين بديل". وعبّروا عن استيائهم من الوضع وخوفهم وهلعهم خصوصاً ان لا إمكانات لديهم لمغادرة المبنى. ودخلت المياه منازل أرضية كثيرة في ضواحي العاصمة وأخرجت بعض محتوياتها الى الشارع. وشهدت الطريق الساحلية بين كسروان وبيروت، خصوصاً في أنطلياس ونهر الموت والدورة زحمة سير خانقة استمرت اكثر من اربع ساعات، بفعل تجمع المياه التي سدّت الطرق والمنافذ. وفي الشوارع التي غمرتها المياه، علقت سيارات كثيرة في مستنقعات، ما أوجد لبعض العمال عملاً في "دفش" سيارات مقطوعة وتقاضي أجر وصل الى 20 دولاراً أحياناً. وشهدت مداخل العاصمة زحمات سير خانقة وساعات طويلة وبخاصة على المدخل الشمالي. وفي منطقة الجناح الضاحية الجنوبية أغرقت مياه المطر وارتفاع أمواج البحر، منازل عدة. وأدى ارتفاع منسوب نهر العمروسية الى محاصرة الأهالي في حيّ السلّم وكذلك في منطقة نهر الموت، إذ دخلت المياه مستودعات ومحال تجارية. وفي بلدة يحشوش كسروان انهارت صخرة ضخمة على منزل المواطن سعيد طانيوس شلهوب ما أدى الى تهدم غرفتين فيه وسقوط بعض الجدران وإصابة ابنته رامونا 17 عاماً بجروح، ووالدتها بصدمة استدعت نقلهما الى المستشفى. وتابعت الصخرة انهيارها فأدت الى تحطيم حائط الدعم على الطريق المؤدية الى معمل الكهرباء. وانهار حائط قرب مدرسة راهبات الجديدة في محلة رويسات الجديدة ما أدى الى إعاقة خروج الطلاب من المدرسة. وفي محلة السبتية المتن الشمالي انهار حائط على سيارة قرب مستشفى بيطار، ما أدى الى سقوط جرحى. وأدت الامطار الى انهيارات عدة أبرزها قرب كازينو لبنان على الطريق الداخلية، وفي فتوح كسروان والدكوانة، فضلاً عن انهيار أحد جسور مدينة الهرمل. وتساقطت الثلوج بغزارة في المناطق الجبلية والبقاع ما أدى الى إنقطاع بعض الطرق المؤدية الى البلدات والقرى المرتفعة في حين بقيت طرق مفتوحة أمام السيارات المجهزة بسلاسل معدن. وفي الشوف، أدت العاصفة الى إقفال المحال التجارية والمؤسسات والجزء الاكبر من المدارس الرسمية والخاصة. وأطاحت السيول عدداً كبيراً من السيارات الصغيرة وسببت انهيارات عدة في غير مكان خسائر كبيرة واقتلاع اشجار وانقطاع الكهرباء وخطوط الهاتف. وفي جبيل، بدت الحركة خفيفة ومقتصرة على الضروريات وأقفلت المحال التجارية في المدينة. وأفاد رئيس اتحاد مزارعي جبيل وكسروان جهاد دكاش عن حصول أضرار في البيوت البلاستيك الممتدة على طول ساحلي كسروان وجبيل بنسبة 15 في المئة، ونسبة الاضرار في المزروعات الخارجية 30 في المئة. وترافقت العاصفة مع انقطاع في التيار الكهربائي في معظم القرى والبلدات. وعملت الفرق الفنية على تصليح الاعطال. وتحوّل مدخل مدينة طرابلس بركاً من جراء السيول التي دخلت محال ومنازل. واعتبر النائب مصباح الاحدب، بعد تفقده محلة البحصاص، ان "ما حصل اليوم ليس بسبب العاصفة الحالية بل نتيجة الاهمال". وقال ان "المطلوب معالجة سبب تكرار الحال نفسها وأضرارها". وطالب "وزير الاشغال نجيب ميقاتي بعدم انتظار وقوع الكارثة لمعالجتها ان القيام بعمل وقائي منعاً لتكرارها". وأسف النائب محمد عبداللطيف كبارة "لما يحصل في البحصاص". وقال ان "ما يهمنا ان تتعاطى الدولة جدّياً مع الناس ومصائبهم، والا تلجأ الى الوعود أو الاكتفاء باطلاق الكلام الاعلامي الفارغ". وفي صيدا، توقفت الملاحة البحرية في المرفأ لليوم الثاني على التوالي وخلّفت العاصفة أضراراً كبيرة في المزروعات على الساحل الجنوبي، اذ غرقت آلاف الامتار المزروعة بالحمضيات والموز بالمياه واقتلعت أشجارها وأسقطت ثمارها على الأرض. وتركزت الأضرار في مناطق الأولي والزهراني وعدلون وأبو الأسود. وتوقفت المدارس في الجنوب، وزاد من ذلك الإرباك الذي أثاره تعميما وزير التربية وبلغت نسبة المدارس التي أقفلت نحو 60 في المئة. وتابع محافظ الجنوب فيصل الصايغ الاجراءات المتخذة من جانب الورش التابعة لمعظم الوزارات لمواجهة نتائج العاصفة. وترأس صباحاً اجتماعاً للجنة الطوارىء التي شكّلت قبل يومين وقام بجولة تفقدية على نهر الأولي، وأكد ان "لا أضرار جسيمة حتى الآن". وفي مدينة صور لم يبلّغ عن أي آثار سلبية للعاصفة على رغم الارتفاع الملحوظ في مستوى أمواج البحر التي لم تؤثر في مراكب صيادي السمك الراسية في الميناء. وفي شأن المدارس تعثرت الدراسة في بعضها واستمرت في بعضها الآخر. وفي الشريط الحدودي المحتل ارتفع منسوب نهر الحاصباني في شكل كبير وجرفت السيول أشجار الزيتون على ضفتيه. وفي عكار، غمرت المياه الشوارع العامة وارتفع منسوب الأنهر وفاض بعضها. وأفيد ان الاهالي في القرى والبلدات المحيطة بالنهر الكبير يعيشون حال خوف من الفيضانات التي يمكن ان تحصل كما في السنوات الماضية. وأبدى المزارعون قلقهم على مواسمهم خصوصاً البطاطا المزروعة حديثاً. وعقد قائد سرية درك عكار الرائد منذر الأيوبي اجتماعاً طارئاً للفصائل والمخافر، وأعطى توجيهاته لمؤازرة المواطنين ومساعدتهم في المناطق المعرّضة للفيضانات. وقام عناصر الدفاع المدني بدوريات على القرى والبلدات. أما المدارس فتوقف بعضها عن الدراسة واستمرّ بعضها الآخر. وأفيد ان الارباك في البقاع كاد يؤدي الى وقوع كارثة في حق عشرات الطلاب في عيناتا، اذ حاصرت الثلوج والامطار سيارة مخصصة لنقل الطلاب عملت فرقة من الدفاع المدني وسط ظروف صعبة على إنقاذهم. وأغرقت السيول شوارع مدينة بعلبك وزحلة. وارتفع منسوب نهر الليطاني وصولاً الى بحيرة القرعون. واقتصرت الاضرار على الماديات اذ اقتلعت عشرات الاشجار وغمرت المياه احد المنازل في زحلة واجتاحت السيول مساحات في منطقة البقاع. وعقد اجتماع ترأسه وزير الاشغال العامة والنقل نجيب ميقاتي وحضره المدير العام للاشغال فادي نمار ومدير الطرق ورؤساء مصالح ومديرون اقليميون، بحثوا خلاله في أوضاع الطرق في العاصمة والمناطق. وقرروا انشاء غرفة عمليات لمتابعة أوضاع الطرق وتلقي المراجعات الطارئة لمعالجتها بالسرعة الممكنة تأميناً للسلامة العامة والحفاظ على سلامة المواطنين. وقال المدير العام للطيران المدني فيصل بكداشي ان "أضراراً في كل أنحاء لبنان نتجت عن العاصفة، ومنها إقفال المطار ومرفأي صور وصيدا". وأوضح ان "الحركة الجوية لم تتأثر، بل تأخرت رحلتان فقط من باريس وعمان". وأشار الى ان "العاصفة بدأت تنحسر لكن الطقس العاطل سيستمر الى اليوم الجمعة". وأعلنت بعض مصالح المياه توقفها عن ضخ المياه مضطرة بسبب السيول التي أدت الى تعكير المياه. وأفاد مرصد تعنايل للأحوال الجوية ان الحرارة ستنخفض وان الطقس سيشهد أمطاراً غزيرة مصحوبة بعواصف رعدية ورياح شديدة وسقوط ثلوج على ارتفاع ألف متر. وأفادت مصلحة الارصاد الجوية ان الحوض الشرقي للبحر الابيض المتوسط سيستمر خلال الساعات المقبلة، تحت تأثير الضغط الجوي المخفوض مصحوباً بكتل هوائية باردة وبأمطار وعواصف رعدية متفرقة.