عندما كانت قلة من الناس تؤمن بأفكاره وترى بأنه على حق في نظرياته التي كان العالم الثوري في ذلك الحين ينظر اليها على انها مجرد أفكار هرطوقية، بلغت شهرته الآفاق وراحت كتبه تباع بعشرات الوف النسخ وتترجم الى شتى اللغات. أما حين اثبتت حركة التاريخ بعد ذلك انه كان، بالفعل، على حق وان تشاؤميته الثورية كانت في محلها، فقد كان نسي تماماً، بحيث انه حين رحل عن عالمنا يوم 29 تموز يوليو 1979، كان قد استعاد مكانته كأستاذ جامعي هادئ رزين ينصرف الى دراساته وأفكاره، وكانت قد زالت عنه تلك الصورة التي كان هو نفسه يرى انها قد الصقت بها الصاقاً: صورة المفكر الثوري المسؤول الى حد ما عن انتفاضة الطلاب التي عمت أنحاء كثيرة من العالم في النصف الثاني من سنوات الستين. أسمه هربرت ماركوزه، ومهنته فيلسوف وعالم اجتماع ألماني الأصل اضطره الاضطهاد النازي الى مبارحة ألمانيا، بعد ان كان واحداً من كبار أعيان "مركز البحوث الاجتماعية" الذي عرف باسم التيار الفكري الذي ارتبط به "تيار مدرسة فرانكفورت" بزعامة ماكس هوركهايمر. هناك ضمن اطار ذلك المعهد كانت ولدت النظرية النقدية، التي كانت، الى جانب محاولة انطونيو غرامشي في ايطاليا، أهم محاولة لاحداث تجديد في الفكر الماركسي الثوري، بعد ان كانت ممارسات الدولة "الماركسية" في الاتحاد السوفياتي والأخطاء المتراكمة للأحزاب الشيوعية الأوروبية، خاصة، قد كشفت عن اتساع الهوة بين نظرية الماركسية وتطبيقاتها. ومن هنا كانت محاولة مدرسة فرانكفورت، عن طريق هوركهايمر وادورنو وماركوزه، وهابرماس لاحقاً، أول محاولة جدية يقوم بها الفكر الماركسي النقدي لتجديد نفسه، أولاً انطلاقاً مما كان يسمى بپ"كتابات ماركس الشاب"، وبعد ذلك بالانطلاق من الهيغلية ومن الفرويدية سواء بسواء. وكان ماركوزه، المولود في برلين في 1898، من أبرز محاولي التجديد انطلاقاً من ثلاثي هيغل، ماركس وفرويد. أما هجرته من ألمانيا في العام 1933 فإنها لم تؤد الى قطع أبحاثه، بل ان وصوله الى الولاياتالمتحدة ومواصلته العمل ضمن اطار "معهد البحث الاجتماعي" الذي أسسه هناك ماكس هوركهايمر، واحتكاكه عن قرب بالمجمع الرأسمالي الذي كان تحليله هو شغله الشاغل، مكنه من أن يعزز أفكاره، وان يجذر من منظوره الثوري، بحيث توصل الى وضع أول نظرية متكاملة وذات مصداقية حول أوليات المجتمعات الرأسمالية في عصور ما بعد الصناعة. وعلى رغم تشاؤمية نظرته التي عبر عنها خاصة في كتابه الأشهر "الانسان ذو البعد الواحد"، فإن أفكاره اعتبرت القاعدة النظرية لحركة الطلاب. كما ان كتابه "الجنس والحضارة" 1955 اعتبر على الدوام نوعاً من اعادة اعتبار ماركسية لنظريات فرويد. بالنسبة الى ماركيوزه، كانت الثورة الطبقية التي تقودها الطبقة العاملة قد كفت عن ان تكون ممكنة، بعد ان تمكنت البلدان الصناعية ذات الكثافة العمالية الواعدة، من ان تحيد الطبقة العاملة عن طريق اجهزة الدولة، كما عن طريق الوهن التدريجي الذي أصاب عملية الانخراط في المنظمات الجماهيرية مثل الأحزاب والنقابات. هذا الكلام تبدى هرطوقياً في ذلك الحين، أي في وقت كانت فيه الأحزاب الشيوعية في البلدان الرأسمالية تعتبر نفسها قوية وغير قابلة لأي تعد. أما ماركوزه فكان يرى انها تعيش نهايتها. فمن يقوم بالثورة اذن؟ الهامشيون حسب ماركوزه: الطلاب، النساء، الأقليات، الملونون والعاطلون عن العمل. ولكن لما كان على هؤلاء ان يجابهوا اجهزة الدولة القوية من ناحية، والطبقة العاملة وأحزابها ونقاباتها من ناحية ثانية، بات من غير الممكن لأي تحرك ثوري ان ينتصر، انما من دون ان يعني ذلك ان التحرك لن يعطى فرصاً لأن يقوم. والمهم، بالنسبة الى ماركوزه، كان ان يقوم التحرك من دون ان يشترط ذلك بانتصاره. ولقد أتت أحداث النصف الثاني من الستينات حركات الطلاب، انتفاضة السود في أميركا، وتفاقم الأزمة العضوية للمجتمعات الصناعية بالتواكب مع انهيار الحركات النقابية وفشل الأحزاب الشيوعية في خوض اللعبة الانتخابية ديموقراطياً، أتت لتؤكد ما كان ماركوزه قد استنتجه. من 1965، أصبح ماركوزه استاذاً في جامعة كاليفورنيا، وكانت الأشهر من بين تلامذته المناضلة السوداء انجيلا دايفيز التي كانت تفخر بانتسابها الى فكره رغم عضويتها في الحزب الشيوعي الأميركي.