كان ذلك العام، العام الأكثر التهاباً حتى ذلك الحين في تاريخ الشرق الأوسط، فالمعركة من حول حلف بغداد قائمة، والاردن يعيش في هاجس الانقلابات ، كما في حالة رد فعل دائمة على ما يقوم بين مصر وسورية اللتين اعلنتا وحدتهما اوائل ذلك العام، وبالارتباط مع ذلك كله كان لبنان يعيش احداثه الدموية التي تضافرت في تحريكها عوامل داخلية رغبة الرئيس كميل شمعون في التجديد لنفسه بالتناقض مع ما ينص عليه دستور البلاد وعوامل خارجية تدخل مصر وسورية ومساندتهما المعارضة وتزويدها المال والسلاح. وسط ذلك المناخ، كان العراق بنفسه يلتهب، فالملك الشاب فيصل الثاني كان لا يزال في الثانية والعشرين من عمره قليل التجربة. أما اللاعبان الكبيران في السياسة العراقية فكانا الوصي عبدالإله، ورئيس الحكومة نوري السعيد. وكان التنكيل بالمعارضة قد بدأ يتخذ طابعاً دموياً عنيفاً في العراق منذ العام 1956، وأتى ذلك متضافراً مع ضلوع السلطات العراقية في خوض لعبة حلف بغداد حتى نهايتها والخضوع لمشيئة بريطانيا في ذلك المجال. وكان من الواضح عند ذلك ان الوضع في العراق بحاجة الى شرارة حتى يشتعل. وأتت الشرارة خلال النصف الأول من شهر تموز يوليو حين اوعزت بريطانيا الى الحكومة العراقية بارسال قوات عسكرية الى الأردنولبنان، تتولى في الأردن التصدي للانقلابيين الذين يحاولون، بتأييد من المخابرات المصرية، الاطاحة بالملك حسين، وفي لبنان مساندة الرئيس كميل شمعون ضد معارضيه، واشتد الخلاف بين السلطات الحكومية والجيش اثر رفض الجيش تنفيذ الأوامر بالتحرك الى الاردنولبنان، وكان لا بد لهذا الخلاف ان يصل الى نهايته. وهكذا ما ان حل يوم 14 تموز يوليو 1958، وكان الملك فيصل يستعد للسفر الى اسطنبول لحضور مؤتمر عالمي، حتى تحرك الجيش بالتنسيق مع عدد من احزاب المعارضة، وفي مقدمها "الحزب الوطني الديموقراطي" و"حزب الاستقلال" و"حزب البعث" و"الحزب الشيوعي"، فأطاح النظام الملكي وقتل كبار المسؤولين وفي مقدمهم الملك والوصي ورئيس الحكومة وعدد كبير من المسؤولين، مما جعل الثورة تتخذ منذ البداية طابعاً دموياً، ميزها عن الطابع غير الدموي الذي وسم الثورة المصرية قبل ذلك بأربعة أعوام. غير ان الدماء التي سالت في ذلك اليوم - وخاصة عبر أعمال السحل التي طالت كبار المسؤولين - لم تكن الأخيرة، اذ ما ان مضى عام على اندلاع الثورة، حتى اندلعت الصراعات المسلحة بين مختلف الفئات التي قامت بها… وأدت الى سلسلة مجازر وانقلابات تالية، والى سلسلة من التحالفات والتحالفات المضادة، طبعت تاريخ العراق اواخر الخمسينات وأوائل الستينات. قبل ذلك، كان أصحاب ثورة 14 تموز قد شكلوا مجلس سيادة تولى مهمات رئاسة الجمهورية. لكن هذا المجلس كان، عبر رئيسه نجيب الربيعي، مجرد واجهة، اما الحكم الحقيقي فكان في يد عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف، أولهما كان يعتبر صديقاً للشيوعيين - ولو الى حين - اما الثاني فكان يمثل الخط المتحالف مع عبدالناصر. في البداية أعلن الانقلابيون جملة أهداف اجتماعية وقومية نالت اجماعاً لا بأس به من حولهم. ولكن سرعان ما نشب الصراع بين قاسم وممثلي "الخط القومي"، ووقف الشيوعيون الى جانب قاسم، الذي شكل محكمة عسكرية برئاسة فاضل المهداوي، راحت تنكل بخصومه، مما ادى الى "انتفاضة الموصل" المدعومة من مصر والتي قادها عبدالوهاب الشواف وناظم الطبقجلي، سحقها عبدالكريم قاسم عبر مذابح راح الكثيرون ضحيتها.