لماذا عارضت عبدالناصر؟ ذات يوم من عام 1953، في الذكرى الأولى لپ"ثورة يوليو" لبت نقابات الصحف في سورياولبنانوالعراقوالاردن دعوة نقابة الصحافيين المصريين الى مؤتمر يعقد في القاهرة. فعهد اليّ النقيب عفيف الطيبي في رئاسة الوفد اللبناني، بصفتي نائباً للنقيب، والذي ضم كذلك الزميلين محمد النقاش والياس ربابي. ترأس المؤتمر رئيس الجمهورية آنذاك محمد نجيب عبدالناصر كان بعد في الظل. قبل افتتاح المؤتمر، طلب الى رؤساء الوفود تقديم كلماتهم للاطلاع عليها مسبقا، فعادت كلمتي من لدن الرقيب بعلامات استفهام كثيرة حول مقاطع تتعلق بالديموقراطية والحريات، وبخاصة الحريات الصحافية مع حذف وتغيير، مما سبب الاستغراب. فالثورة اطاحت الملكية وحكم الاقطاع والباشوات وجاءت بحكم الشعب ووعدت باطلاق الحريات وقالت: "ارفع رأسك يا أخي فأنت اليوم حر ومصر لك". ودعيت الى القاء كلمة صحافة لبنان فألقيتها بنصها الأصلي متجاهلا علامات الاستفهام والتعديل فيها. وبوصولي الى الكلام على الحرية وحق الشعوب في ان تحكم نفسها بنفسها اشتعلت القاعة بالتصفيق ولاحظت من عبدالناصر لفتة ذات مغزى نحو محمد نجيب جعلتني اتساءل : "ترى ماذا دهى الحرية؟ وهل في نية ضباط الثورة ان يستأخروها والثورة في خطواتها نحو المجهول؟ الله أعلم". وعدت الى مقعدي متسائلا : "ترى اذا لم يتحدث الانسان عن الحرية في ديار سعد زغلول وعرابي وفي حضرة الذين ثاروا على الفساد والذل والعبودية وقذفوا بعرش الظلم والقهر وراء البحار، فعن أي شيء يتحدث؟". ونهض محمد نجيب في نهاية المؤتمر فشكر الوفود الصحافية ثم تحدّث عن الحرية، "ولمصر تاريخ طويل معها ومع الاستعمار"، قال بذلك بنبرة قوية شجاعة، فقلت في نفسي: "أما ان الرئيس محمد نجيب اراد ان يزايد على كلمتي ليفهم الحاضرين ان الحرية بخير، أو ان الرقيب يتبع سلطة خارجة عن ارادة الرئيس". وتبين لي في ما بعد ان استنتاجي كان في محله. بعد هذا المؤتمر بوقت غير طويل، خرج عبدالناصر من الظل وخلت الرئاسة من محمد نجيب. أما كلمتي فقد أخذها نقيب صحافة مصر حسين أبو الفتح وصدرت صباحا في "المصري" بعنوان "حكم الشعب"، واتبعها أحمد ابو الفتح رئيس التحرير بسلسلة مقالات بعنوان "حكم الشعب". فقد كان الاتفاق بين "المصري" والضباط الأحرار ان تعود الحياة البرلمانية الديموقراطية بعد نجاح الثورة، ذلك انه في دار "المصري" كانت تعقد الاجتماعات السرية لپ"الضباط الأحرار"، ومن مطابعها كانت تخرج بياناتهم، وفيها يحتفظون بسلاحهم الخفيف. وفي حضور أحمد أبو الفتح، ومشاركته، عقدت جميع مراحل التخطيط لاحدى أعظم الثورات وأخطرها في التاريخ. وذات ليلة، وقد اقترب فيها تنفيذ الانقلاب والضباط مجتمعون في دار "المصري"، هرع رجل الى الداخل وأبلغ الى أحمد أبو الفتح المتزوج من شقيقة ثروت عكاشة، قائد فوج الفرسان في معركة الضباط الاحرار، ان البوليس السري يراقب الدار. فأسرع أحمد الى اخبار عبدالناصر ورفاقه الذين تسللوا من باب خلفي قبل أن يدخل البوليس الحربي ويفتش غرف دار الجريدة ويعود منها بخفي حنين. تلك كانت العلاقة بين الضباط ودار "المصري"، كلاهما في خطر مؤكد لو انكشف الأمر واخفق الانقلاب. ولكن بعد نجاح الانقلاب وخروج عبدالناصر الى العلن رئيسا للوزراء، ومحمد نجيب في رئاسة الجمهورية، وقع الخلاف حول عودة الحياة البرلمانية والحريات التي وعد بها قادة الثورة، فتصدت لهم "المصري" بسلسلة مقالات بعنوان "حكم الشعب"، استوجبت عقد اجتماع بين عبدالناصر وأحمد أبو الفتح في منزل ثروت عكاشة شقيق زوجة أبو الفتح، انتهى الى خلاف في الرأي عندما أصر رئيس تحرير "المصري" على رأيه بوجوب عودة الحياة البرلمانية فورا الى مصر. بعد هذا الاجتماع الذي كان حارا عاصفا، استمرت "المصري" في موقفها المطالب بأن يعود الحكم الى الشعب، بعد نجاح الثورة، فصدر قرار باسكات صوتها ثم مصادرة مطابعها التي كانت تستعد للانتقال الى عاصمة أخرى تمارس فيها حريتها ودفاعها عن حرية مصر وحض شعبها على العودة الى نظامه الديمقراطي. وغادر أحمد أبو الفتح مصر خشية العواقب. من هنا كان خلافي أنا أيضا مع الثورة، فشنت جريدتي "الهدف" حملة قاسية على عبدالناصر الذي غيّر موقفه من رفاقه وخصوصا "المصري" وأصحابها، وأنا واحد من أسرتها كمراسل لها في الشرق الأوسط وفي العالم أيضا، كلما انتدبت لتغطية حدث كبير أو مؤتمر دولي حيثما يعقد. وجريدة "المصري" كانت مع "الأهرام" احدى الجريدتين الأكثر رواجا في مصر والبلاد العربية، وكانت تنطق باسم حزب الوفد المصري حزب الغالبية في مصر المعارض لتسلط الملك فاروق وتفرده بالسلطة. تشريد آل ابو الفتح بعد تشريد آل ابو الفتح واقفال جريدة "المصري" ومصادرة اموالهم وارزاقهم وتجريدهم من الجنسية المصرية، كان محمود ابو الفتح في جنيف في سويسرا، وذات يوم جاءته برقية من أخيه احمد انه في طريقه اليه من ايطاليا. وكان احمد أبو الفتح قد لجأ الى لبنان واضطر محمود أبو الفتح للسفر الى ايطاليا لملاقاة اخيه احمد، وقد سافر بموجب "جواز مرور" من السلطات السويسرية تتيح له السفر والعودة بموجبه. كنت يومها مع محمود ابو الفتح في سويسرا، وسافرنا سوية الى ايطاليا. وعند الحدود الايطالية - السويسرية دققوا مع حامل جواز المرور فسألني: "ما العمل الآن يا زهير؟ اهكذا نصبح مشردين في الارض لا هوية لنا كأن جريدة "المصري" واصحابها لم يكونوا يوما عربا ولم يخدموا قضاياهم؟". ونظرت في وجه محمود بك فرأيته يمسح دمعة بمنديله فأبكاني وشعرت بقلبي يتمزق فقلت له: " لا تحزن يا صديقي، هوّن عليك ولسوف ترى ان في العرب من يقدرّك ويشعر معك في محنتك هذه". وتوجهنا الى روما حيث نزلنا في فندق "أكسلسيور"، واتصلت من غرفتي بالدكتور فاضل الجمالي وزير الخارجية العراقي يومئذ واطلعته على وضع صاحب "المصري" فتأثر جداً وقال: "اتصل غداً بسفارتنا في روما لاجراء اللازم وأنا بانتظاركم في بغداد". وفي صباح اليوم التالي ذهبنا الى السفارة العراقية فسلمتنا جواز مرور، وهي وسيلة السفر الى بغداد. ووصلنا الى مطارها فوجدنا مندوباً من وزير الخارجية ينتظرنا وقادنا الى مقر وزارة الخارجية حيث استقبلنا فاضل الجمالي ورحب بمحمود أبو الفتح أجمل ترحيب وطيّب خاطره وقال له : "سترى ما يسرك ان شاء الله". وفي اليوم التالي انعقد مجلس الوزراء العراقي واتخذ قرارا بمنح محمود أبو الفتح الجنسية العراقية، تقديرا لخدماته وتضحياته في سبيل العرب والعروبة. وأذكر ان معاملة الجنسية التي تمر عادة باجراءات ومراحل لا بد منها عبر الدوائر المختصة وتتطلب أياما بل أسابيع، انجزت بسرعة قياسية، وخلال يوم واحد كان محمود أبو الفتح يحمل الجنسية العراقية وجواز سفر يتحرك به كيفما يشاء، فكان التحرك الاول الى سويسرا حيث يقيم فحصل من القنصلية السويسرية على تأشيرة دخول الى سويسرا، ورغم ان السلطات السويسرية لفت نظرها تغيير الجنسية، الا أنها تتساهل مع الشخصيات المعروفة لديها وأن محمود أبو الفتح ليس مجهولا منها وهو يقيم فيها منذ مدة وله مصالح فيها قبل ان يقضى عليه بنزع الجنسيبة والتشرد، وكذلك هي لا تعترف بالانقلابات التي تحصل وتشرّد الناس. وظل محمود أبو الفتح عراقيا حتى الانقلاب الذي قام به عبدالكريم قاسم حيث قرر مجلس الوزراء العراقي في أول جلسة له سحب الجنسية العراقية من محمود أبو الفتح. وهنا سألني أبو الفتح مرة ثانية : "والآن ما العمل؟" وكان الجواب اياه: "هون عليك لا بد من ايجاد المخرج". وعدت الى بيروت وكان سفير العراق فيها صديقا لي فاطلعته على مراحل القضية وقلت له: "لي طلب واحد منك هو ان تعود الى الجريدة الرسمية العراقية "الوقائع العراقية"، كما يسمونها في بغداد، وهي تحمل مرسوم اعطاء الجنسية العراقية الى محمود ابو الفتح". وبالفعل وجدنا المرسوم في احدى الوقائع وهانت الامور، ولا عبرة لدى الدول العريقة لما يحدث في زمن الفوضى والانقلابات، وهكذا كان فبقيت الجنسية العراقية سارية المفعول في سويسرا. ولكن بعد شهر واحد من الانقلاب العراقي واطاحة العهد الملكي ساءت صحة محمود ابو الفتح وانتقل الى المانيا وتوفي في مستشفى بادن، ولم يتمكن اهله من دفنه في مسقط رأسه مصر، بحسب وصيته، لمعارضة السلطات المصرية دخول محمود أبو الفتح الى مصر حتى وهو فاقد الحياة، لكنه دفن في تونس بأمر من الرئيس الحبيب بورقيبة. إذاعة غير شرعية في منزلي على أثر الخلاف الذي نشأ بين نظام "الضباط الأحرار" وآل أبو الفتح الذين صودرت جريدتهم "المصري" ومطابعها وشردوا خارج مصر، طرأت فكرة انشاء اذاعة تعمل ضد النظام الجديد في مصر. فاجتمع في بيروت محمود أبو الفتح وبعض المنتسبين الى "الاخوان المسلمين" ومنهم كامل الشريف من مصر الذي أصبح في ما بعد نائبا ووزيرا في الاردن، والشيخ مصطفى السباعي من سوريا، وتقرر في ذلك الاجتماع انشاء اذاعة في لبنان تعمل ضد النظام في مصر. لكن السؤال كان: "كيف؟ وأين يكون مقر هذه الاذاعة؟" فرددت على السؤال فورا: "توضع في منزلي". قلت ذلك وأنا لا أعرف كيف يتم ذلك. فاتصلت بالسيد لويس رزق المهندس في "اذاعة لبنان" للاستعانة برأية وخبرته، وقبل ان ادخل معه في الموضوع، وهو من أصدقائي المفضلين، قلت له: "اني استشيرك في أمر مهم حبذا لو تقسم على أن يظل سراً بيننا، سواء تحقق الامر أم لم يتحقق". فقال: "أنت صديق عزيز ويسعدني أن تبقى ثقتك بي تامة لا تتأثر بشيء". فأطلعته على فكرة المشروع وهل من الملائم فنيا ان يقام في المنزل أم لا؟ اعتقد ان الفكرة لم تزعجه لأنه في طبعه لا يحب الانظمة الديكتاتورية فقال: "في الامكان وضع الاذاعة في غرفة خاصة من المنزل، شرط ألا يدخلها أحد". فباشر العمل مستعينا ببعض الآلات الموجودة محليا. فولدت الاذاعة باسم "صوت مصر الحرة" موجهة نحو القاهرة فقط، ثم جعلها السيد رزق تصل الى مصر وسوريا ومحيطها، بعد ما سافر أبو الفتح الى سويسرا وعاد ببعض القطع اللازمة. وبذلك أصبحت لدينا شبه اذاعة، وأجرينا عليها تجارب باذاعة آيات قرآنية سمعت في القاهرة، وكان أول خطاب للشيخ مصطفى السباعي ثِم تلاه كامل الشريف أحد أركان "الاخوان المسلمين" بهجوم شديد على النظام مطالبا بتغييره مما لفت أجهزة السلطات في القاهرة، فاتصلت بالسلطات اللبنانية طالبة وقف هذه الاذاعة، فبدأت التحريات فورا وحدد الرادار الحي والشارع بالذات الذي تعمل منه الاذاعة. فاتصل بي مدير الأمن العام الصديق الأمير فريد شهاب وأبلغني ان الشبهة تحوم حول بيتي. ولما أنكرت قال لي: "لا سبيل للانكار، وأنا أنصحك بأن تخرجها من المنزل قبل مداهمته". أمام خطورة مصادرة الاذاعة والنتائج، أخذت بنصيحته وعمدت فورا الى تفكيكها واعطاء السيد رزق ما يحتاجه منها، ووضعت البقية في صناديق نقلت الى مطابع جريدتي، وهي بعيدة نسبيا عن البيت. تلك الغرفة المغلقة في منزلي اثارت اهتمام أولادي الصغار، فكان كلما دخلها رزق وأقفل الباب لاجراء التجارب، يسألون والدتهم: "من هذا؟ ولماذا يقفل الباب؟". فأقنعتهم بان "الرجل يجرّب مطبعة حديثه لحساب والدكم ستنقل قريبا الى مطبعة الجريدة". وبعد يومين من خروج الاذاعة طرق باب المنزل رجلان وطلبا الدخول، فسألتهما: "ما الأمر؟" فقالا: "لدينا أمر بتفتيش المنزل"، قلت: "شرفوا" فشرفوا وفتشوا كل الغرف وما فوقها وتحتها وعادا كما جاءا وأسدل الستار. "الخائن" زهير عسيران في الحديث عن خلافي مع الرئيس المصري جمال عبدالناصر وأسبابه، أذكر أن اجتماعا عقد في دمشق عام 1958بين حميد فرنجية والسفير المصري محمود رياض وانضم اليهما علي بزي. وكانت الثورة في لبنان على عهد كميل شمعون قائمة، وانتخب حميد فرنجية رئيسا لپ"مؤتمر الشعوب العربية" وعلي بزي أمينا عاما. أثناء هذا الاجتماع لا اعلم كيف جيء على ذكري، فانبرى السفير محمود رياض يتهمني بِ "الخيانة"، فقطع عليه علي بزي الكلام قائلا: "يا سعادة السفير، أنت لا تعرف زهير عسيران. ان اتهامك له ظالم، والآن أغتنم المناسبة للتعريف به وبأسباب موقفه من الثورة، وكان أول من باركها وأيدها في لبنان. ولو تسمح بسؤال أقول: من الأقوى الآن، عبدالناصر أم آل أبو الفتح الذين أقفلت جريدتهم وصودرت أملاكهم وشردوا من مصر؟ زهير عسيران رفيق لي، وكلانا في خط قومي وسياسي واحد. هذا الرجل تعرّض لاغراءات مادية أعرف مصادرها، وجريدته في حاجة الى المساعدة، فرفض كل إغراء واستمر في الدفاع عن "المصري" وأصحابها عن اقتناع بأنهم ظلموا، وهم وزهير ليسوا أبدا ضد الثورة بل ضد ممارسات رأوا فيها تنكرا للحرية في مصر ولا شيء غير ذلك". الضحك ممنوع في العراق! ذات يوم من عام 1956 كنت في عداد وفد صحافي رافق الرئيس كميل شمعون لزيارة بغداد، بدعوة من ملك العراق فيصل الثاني والوصي على العرش عبدالاله. ورافق الوفد الرئاسي، الى جانب الوفد الصحافي، فريق من النواب وسفير العراق في بيروت ابراهيم الخضيري وزوجته التي كانت على جانب كبير من الكياسة والجمال. أقلتنا الطائرة الى بغداد، وجلس الرئيس شمعون في مقدم الطائرة ودعا قرينة السفير العراقي للجلوس الى جانبه. ومن المعروف عن الرئيس شمعون أنه يحب الجمال. وتوزع أعضاء الوفد النيابي والصحافي في مقاعد الدرجة الاولى، وبعدما أقلعت الطائرة، أخذت اتردد على غرفة "التواليت" التي تقع كما يعلم الجميع في مقدم الطائرة، وكنت أمر في الذهاب والاياب بالقرب من كرسي الرئيس. ولما تكررت روحاتي وغدواتي صاح بي الرئيس شمعون وسألني بحنان: "هل بك شيء؟" ظنا منه أنني مريض أو اصبت بدوار، فأجبته: "كلا يا فخامة الرئيس انني بخير والحمد لله، ولكنني أتعمد ذلك لكي أنعم أيضا بالجمال". فضحك الرئيس وجارته السفيرة. وصلنا الى بغداد وجرت مراسم الاستقبال على أحسن ما تكون، وبخاصة ان علاقات حميمة كانت تربط الرئيس شمعون بأركان الحكم العراقي. وأقيمت حفلات كثيرة وكبيرة على شرف الضيف الكبير، وكذلك رتبت رحلة صيد الى مزرعة شيخ مشايخ بني ربيعة والد زوجة الوصي الامير عبدالاله الوحيدة التي نجت من المجزرة المؤلمة التي حلت بالعائلة الهاشمية، وقد انتقاني الرئيس شمعون من بين جميع أعضاء الوفد لمرافقته في هذه الرحلة. ومن أبرز الحفلات التي أقيمت كانت الحفلة الساهرة التي أقامها السيد توفيق الخضيري، نسيب السفير العراقي في بيروت وهو من أبرز الشخصيات العراقية ويملك قصرا منيفا على ضفاف دجلة ويتسع لمئات الاشخاص، كما حضر الحفلة الملك فيصل الثاني وولي العهد عبدالاله ورئيس الوزراء والوزراء والاعيان والنواب وأحيت الحفلة الساهرة المطربة العراقية الشهيرة عفيفة اسكندر ذات الحظوة الكبرى لدى رجالات العراق وفي مقدمهم الوصي. وبعد العشاء بدأت حفلة الطرب وأخذت المطربة تشدو بأغانيها العراقية المميزة وصوتها الملائكي ومنها أغنيتها المشهورة "عمي يا بياع الورد". فأخذتني النشوة وبدأت "أهيص" على طريقتي وابتسم بصوت عال "أي اقهقه"، وهي ترمقني بنظراتها المشجعة كأنها تحثني على المزيد. وبينما أنا في منتهى الانسجام ومستغرق في النشوة، شعرت بأن يداً تربت على كتفي من الخلف. فالتفت مذعوراً فاذا بالسفير العراقي يقول لي: "اتبعني" ويا لهول هذه اللحظة. هلع قلبي وطارت النشوة من رأسي وحسبت ان هناك أمرا جللا حدث لعائلتي في بيروت استدعاني من أجله. وصرت أضرب أخماسا بأسداس. وما ان ابتعدنا قليلا حتى سألته وأنا شديد الاضطراب: "ماذا جرى؟ قل لي بربك هل هناك اخبار سيئة؟" فأجابني وهو مقطب الجبين، مما زاد في هلعي وقلقي واضطرابي: "هل تعلم انك في حضرة ملك العراق ولا يجوز لك أن تضحك هكذا بصوت عال؟" فذهلت وبهت. وانتابتني نوبة من الغضب ولكني تمالكت اعصابي بعدما اطمأننت الى ان لا شيء عائليا مزعجا وقلت له: "أمن اجل هذا استدعيتني؟ حسنا لن أضحك بعد الآن". وانزويت في مكان قصي كي لا يراني أحد. وعندما استعدت المطربة لاداء الوصلة الثانية استغربت عدم وجودي في مقعدي وكأنها لاحظت استدعاء السفير لي وقالت بصوت عال: "أين زهير؟" فاستغرب الجميع الأمر وتطلع الوصي بدوره وقال: "حقا أين زهير؟" وصاح الوصي برجال الأمن المتحلقين حول المدعوين للمحافظة على راحتهم ورعايتهم وقال لهم: "ابحثوا عن زهير عسيران". وطبعا لم اغب أنا عن انظارهم حين انزويت، وهم لا يدرون شيئا مما دار بيني وبين السفير. فاستداروا نحوي وسألني أحدهم: "أنت زهير عسيران؟" فقلت: "نعم" قال: "سيدنا الوصي يطلبك" فأجبتهم: "لن أغادر هذا المكان". وتحلق الجميع حولي وقالوا: "يا معوّد، "باللهجة العراقية لا تحرجنا لخاطرنا تفضل". والحوا بالرجاء فخجلت وذهبت معهم وجلست في مكاني وأنا مكفهر الوجه والتأثير باد على وجهي. فسألني الوصي بصوت عال: "شبيك؟" أي ماذا بك؟ فأشرت بأصبعي الى السفير، فاستدعاه وسأله: "شنو القضية؟" فلم يجاوب وطأطأ رأسه صامتا فارتد الوصي نحوي وعاد وسألني: "شنو القضية؟" فقلت له متسائلا: "سيدنا هل الضحك ممنوع في العراق؟" فاستغرب الوصي هذا السؤال بعدما ضحك الجميع بمن فيهم الوصي وقال: "افصح، شنو القضية؟" فرويت له ما جرى معي فاذا به ينفعل ويوجه الى السفير كلمات قاسية: يا كذا... وكذا... ثم التفتت المطربة المحبوبة نحوي وقالت بغنج ودلال: "والآن ماذا تريد ترضية؟" فاغتنمتها فرصة واجبتها: "قبلة" فتقدمت نحوي وقبلتني. عندها قلت: "يا ليتني طلبت أكثر من ذلك" فقالت لي: "ماذا تريد أكثر يا؟" وأمطرتني بالشتائم العراقية المحببة. وضحك الجميع بمن فيهم الملك والوصي والرئيس. احتفالات 14 تموز في 14 تموز 1959 دعي وفد صحافي لبناني لحضور احتفالات عيد الثورة الاول في بغداد في عهد عبدالكريم قاسم. تالف الوفد من عشرة صحافيين برئاسة النقيب عفيف الطيبي. وبعد وصولنا الى بغداد دعانا عبدالكريم قاسم الى مؤتمر صحافي يعقد الساعة الخامسة بعد الظهر، سبقته دعوة من سفيرنا في بغداد كاظم الصلح الى حفل عشاء تكريمي بعد المؤتمر دعا اليه كبار رجالات العراق. وحضر المدعوون جميعا بانتظار انتهاء المؤتمر الصحافي الذي كان مقررا ان يبدأ عند الخامسة بعد الظهر، ولكن تأخر انعقاده فاتصل السفير الصلح بوزارة الدفاع مرات عدة مستطلعا، فكان الجواب ان سبب التأخير "انشغال الزعيم". مرت ساعة وساعات على الموعد المحدد والسفير يتصل سائلا. وغادر المدعوون دار السفارة وسط الاستفهام والتعجب. اما الوفد الصحافي فظل ينتظر حتى الرابعة فجراً، فدخل الزعيم القاعة وبدأ يتحدث حتى طلوع الشمس، فغادرنا وزارة الدفاع شاكرين حامدين... ورحنا نطوف المدينة بحثا عن مطعم ينقذنا من المجاعة والارهاق. وفي الحديث مع من عندهم معرفة ومعلومات عن الزعيم وكيفية تصرفه المستهجن، قالوا ان الزعيم يتعمد احيانا التضليل ويبالغ في الحيطة والحذر لاسباب تتعلق بسلامته الشخصية. وما يؤكد معقولية هذا التفسير هو اننا خلال المؤتمر سمع الزعيم وسمعنا طرطقة كصوت الرصاص، فنهض ويده على المسدس وعيناه على الباب ينتظر من يقتحم القاعة، ولكن الله لطف بنا جميعا فلم يدخل احد... وكل ما في الامر انها كانت صفقة باب قوية ولا شيء غير ذلك!... حديث الزعيم خلال المؤتمر كان عن "انجازاته العظيمة" وتوقعاته المستقبلية والغمز من قناة عبدالناصر. واما احتفالات عيد الثورة العراقية فقد سمعنا خلالها عجبا. سمعنا "جماهير" الزعيم قاسم تهتف في بلد النزعات الوطنية القومية: "عاش الشعب السوري عاش بقيادة خالد بكداش.." "يا جمال يا حشاش... ماكو زعيم الا كريم..". اختراع "الرقابة الذاتية" على أثر المحاولة الانقلابية التي قام بها الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1961 على عهد الرئيس فؤاد شهاب، رأى "المكتب الثاني" ان يمسك بخناق الصحافة باخضاعها للرقابة المسبقة، فثارت ثائرة الصحافة واجتمع مجلس النقابة للنظر في الموضوع - البدعة، فاتخذ قرارا برفض الرقابة والمس بالحريات والاستعاضة عنها بالرقابة الذاتية، وانتدبتني النقابة لمقابلة الرئيس شهاب وابلاغه موقف الصحافة والطلب اليه ان يتجاوب معها ويقول كلمته في قرار الرقابة وخطره على الحريات العامة. فطلبت مقابلة الرئيس اللواء، وتربطني به أواصر محبة وعلاقة جيدة. فقابلته وعرضت الأمر عليه. فقال: "وهل من المعقول ان يظل "الملق فالتاً" "والحرية بلا ضابط؟". قلت: "كلا فخامة الرئيس، لكن نقابة الصحافة قادرة على تحمل مسؤولية صدور الصحف في اطار القانون وذلك بفرض رقابة ذاتية" على نفسها فلا ينشر خبر قبل موافقة "لجنة المراقبة الصحافية" عليه. وبذلك لا يفلت الملق وتصان الحرية التي هي توأم لبنان ورأسماله بين الأوطان، ويكفلها "الكتاب" الدستور المؤتمن فخامتكم عليه. وهو حل يرضي الصحافة ويتفق مع "الكتاب" في وقت واحد". فاقتنع الرئيس بهذا الحل واصدر امره الى "المكتب الثاني" بالرجوع عن قراره حتى اشعار آخر. شكرت الرئيس وعدت الى نقابة الصحافة بهذا الخبر الذي حال دون قيام أزمة بينها وبين الدولة، فاجتمع المجلس واصدر قراراً بتأليف لجنة "الرقابة الذاتية" على ان تكون في اشرافي بحيث أكون حكما في أي خلاف قد يقع بين اللجنة والصحف عند التطبيق. وسارت الامور بانتظام وبالتي هي أحسن. ويحضرني هنا حادث طريف حصل خلال مدة الرقابة هو ان جريدة "الانباء" لسان الحزب التقدمي الاشتراكي والتي كان يشرف عليها الاستاذ كمال جنبلاط وزير الداخلية يومذاك، اعدت مقالا للنشر "من كعب الدست"، حذفته لجنة الرقابة لأنها رأت فيه ما يثير المشاعر. وبالاحتكام الي قصدت مطبعة "الانباء" واطلعت على المقال المحذوف فرأيت رأي اللجنة فيه ووافقت على حذف المقال وحذّرت من نشره تحت طائلة المسؤولية. وفي الصباح أبلغ الي ان "الانباء" صدرت وفيها المقال المحذوف، فاتصلت فورا بالقوة الامنية الموضوعة في تصرف لجنة الرقابة الذاتية وطلبت اليها مصادرة الاعداد حيثما وجدت وتطويق المطبعة كي لا تعاود الطبع. وأبلغ الأمر الى صاحب المطبوعة وزير الداخلية فقال: "ما هذا؟ كيف تتصرف الشرطة هكذا ومن دون علم وزير الداخلية؟". كلمة حق تقال ان جنبلاط لما علم ان أمر المصادرة صدر عن لجنة الرقابة الصحافية تصرف كصحافي وقال: "كلمة الصحافة فوق الجميع ونمتثل لحكمها". وهكذا سارت الأمور طوال حكم تجربة الرقابة الذاتية الذي دام نحو سنة ويزيد واصبح في ما بعد تقليدا راقيا تلجأ اليه او تنادي به نقابات الصحافة في الخارج عند وقوع أزمات بينها وبين السلطات. ديون "الهدف" يوم انتخبت نقيبا للصحافة قمت مع اعضاء مجلس النقابة عام 1966 بزيارة بروتوكولية تقليدية للرئيس شارل حلو وقدمت المجلس ورجوت ان تتحقق للنقابة في عهده ما لها من مطالب هو مؤهل كصحافي لتحقيقها. استقبلنا فخامته ورحب بنا بحرارة قائلا قولته المشهورة: "اهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان". ولا انسب هذه المقولة الي أو الى غيري، لكن الرئيس حلو كان يفتخر بانه من اسرة الصحافة وانه يعتبر زملاءه، عندما يزورون القصر، انهم في دارهم - اي وطنهم الثاني. المهم ان الجميع ضحكوا طويلا للغمزة اللطيفة وودعناه شاكرين له حفاوته وتكريمه لزملائه. ويحضرني الآن ان الرئيس شارل حلو وجّه في تلك الايام دعوة رسمية الى أمير الكويت الشيخ صباح السالم الصباح لزيارة لبنان، مع العلم ان الامير كان يصطاف في لبنان وله فيه قصره المعروف، مع ذلك اراد الرئيس حلو ان تكون الزيارة رسمية، زيادة في تكريم الامير. وقد اغتنمت الفرصة وزرت فخامته ورجوته، قبل وصول الامير ببضعة ايام، ان يذكرني بالخير عند مجيء سموه. واطلعته على السبب الموجب وهو انني مدين للامير بمبلغ من المال، وان الفوائد تتراكم علي في بنك انترا، لعله يعفيني من هذا العبء الثقيل. فقال: "تكرم يا نقيب". وكانت لي علاقات خاصة مع الرئيس حلو قبل وصوله الى سدة الرئاسة. وجاء موعد زيارة الامير فانتقل الرئيس الى المطار لاستقباله، وكنت بين المستقبلين بصفتي نقيباً للصحافة. وبعد استعراض ثلة من الجيش، توقف الرئيس حلو وسأل: "أين زهير؟ أريد النقيب عسيران". فتوقف الامير مكانه يريد ان يفهم مغزى هذه اللفتة من الرئيس حلو الذي قال لضيفه: "هذا رئيسي يا سمو الشيخ، ويوم تنتهي ولايتي أعود الى الصحافة ويبقى هو نقيب الصحافة رئيسي". لقد كانت لفتة كريمة من الرئيس حلو لا أنساها. فقد فعلت فعلها لدى سمو الشيخ صباح وعلى النحو الذي كنت أتوقعه. وكان مني، وانا الى جانب الرئيس نستقبل الأمير في المطار، أنني لم اجد احسن من القول للضيف الكبير: "أهلا بكم في وطنكم الثاني لبنان يا صاحب السمو". وبعد ما استقر الشيخ صباح في مصيفه أقيمت له حفلات تكريمية عدة منها الحفلة التي أقامها سفير الكويت خالد جعفر، وقد اجتمع حول مائدة الامير الرئيس شارل حلو والرئيس صبري حمادة والرئيس عبدالله اليافي وكنت قريبا من هذه الطاولة. فبعث الي الرئيس حلو باشارة كي انضم اليهم تنبه لها الشيخ صباح وربطها بما حدث في استقباله في المطار، ونام عليها بعض الوقت. وبعد أيام استدعاني الرئيس حلو وسألني: "وين صرنا يا زهير؟ مشي الحال أو بعد؟" قلت: "حتى الآن لم تمطر يا فخامة الرئيس". ولكن بعد عودة الأمير الى الكويت اتصل بي السيد حسن الخليل، وكيل املاك الأمير، فاجتمعت اليه وسلمني رسالة من صاحب السمو تحمل الخير والبركة اذ انني توجهت والسيد الخليل الى بنك انترا واجرينا المعاملة اللازمة. ولكن كانت اليد قد وضعت على المصرف فتأخر انجاز المعاملة زهاء سنة تقريبا، انما انتهت بعد سنة على خير وكما شاء لها الرئيس حلو ان تنتهي. بعد ذلك كان من واجبي ان اتوجه الى الكويت لتقديم شكري للامير، فاستبقاني في ضيافته بضعة ايام، ويوم قررت الرجوع الى لبنان زرته مودعا، ولم ينس ان يحمّلني تحياته لفخامة الرئيس شارل حلو قائلا: "تحياتي له وهو سيعود الى رحاب نقابتكم التي علينا وعلى العرب جميعا ان يذكروا صحافة لبنان بالخير لمواقفها وخدماتها الجليلة لقضايا العرب...". * يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار في بيروت الشهر المقبل