الكتاب: معتزلة البصرة وبغداد. المؤلف: رشيد الخيّون. الناشر: دار الحكمة - بيروت 1999. كانت الطبعة الأولى من الكتاب صدرت نهاية العام 1997، ونفاذها يؤكد أن للفكرالعقلي حضوره في الأذهان. وفي كتابة تاريخ المعتزلة حاول مؤرخون عدة اعطاء الاعتزال أبعاداً سياسية بحتة، بدءاً من ربط وجود الاعتزال، كفكر وفلسفة، بالذين اعتزلوا الخلافات في السلطة الإسلامية. وبالغ بعض المؤرخين أيضاً في الدور السياسي الثوري للمعتزلة في مواجهة السلطة الأموية، ثم العباسية. كما بالغ مؤرخون محابون في اعتبار المعتزلة حماة الدين ضد فرق إسلامية وديانات وفلسفات، انطلاقاً من فلسفة التوحيد المعتزلي الخاصة في تنزيه الذات الإلهية من الصفات، ومن اشغالهم لموقع فكري كادت تلك الديانات والفلسفات أن تحتله. وفي هذه المهمة عدّوا من المجددين في الدين الإسلامي. أما مؤرخو الملل والنحل من المعتزلة فقد تبنوا الدفاع عن جماعتهم بطريقة لا تعقل أيضاً، حينما نسبوا الى طبقات الاعتزال، طبقة جليلة عند المسلمين، وهم الخلفاء الراشدون الأربعة، وعمر بن عبدالعزيز، وابناء وأحفاد علي بن أبي طالب، وصلحاء الصحافة والتابعين الى الاعتزال، وبالتالي ان فكر هذه الجماعة "المقدسة" وسلوكها من فكر النبي وسلوكه. ولقد أساءت محاولة التأصيل هذه الى مصداقية الرواية التاريخية عند المعتزلة، بما فيها من تهويل ودعاية. نشأ المعتزلة بعد تبلور فكرتي نفي القدر ونفي الصفات، فعليهما تعتمد مقالاتهم الكلامية والفلسفية الأخرى. وما القول في "المنزلة بين المنزلتين" إلا الشكل الظاهري الذي أعلن به واصل اعتزاله عن مجلس شيخه الحسن البصري. وأصبحت فكرة "نفي القدر" جوهراً في فلسفة العدل عند المعتزلة، بينما أصبحت فكرة "نفي الصفات" جوهراً في فلسفة التوحيد لديهم. أما مبادئ أو أصول المعتزلة الأخرى: "المنزلة بين المنزلتين" و"الوعد والوعيد" و"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فما هي إلا تطبيقات لمبدأ العدل كشروط لتحقيقه اجتماعياً. إلا أن المعتزلة لم ينفردوا، من التيارات والفرق الفكرية، بتبني فكرة نفي القدر أو فكرة نفي الصفات أو القول بخلق القرآن، بل كانت واضحة ورئيسية عند الإباضية الذين ظهروا بالبصرة قبل ظهور المعتزلة بكثير. أما مقالة نفي الصفات فقد بانت بسيطة عند واصل بن عطاء، ثم بدت عند خلفائه معقدة وفلسفية. وكان ادخال الفلسفة عليها بداية برأي أبي الهذيل العلاف، حين وحّد بين الذات الإلهية والصفات بفكرة "أن الله قادر وقدرته هو هي، وحي وحياته هو هي، وكريم وكرمه هو هو" الخ، وبالتالي ألغى العلاف الثنائية بين الذات الإلهية وصفاتها، فلا يصح أن تكون قديمة بقدم الله، أو أن يتصف الله بمعكاسها من الصفات، وهذا هو التنزيه المطلق الذي يذهب إليه التوحيد المعتزلي. والى جانب ذلك فلسف مفكرون آخرون العلاقة بين الذات الإلهية والصفات بآراء أخرى، فقد جعل معمّر بن عباد الصفات معانٍ لذات الله بقوله: "إن الله عالم بعلم، وأن علمه كان لمعنى، والمعنى كان لمعنى لا الى غاية". وفلسف أبو هاشم الجبائي العلاقة بين الله والصفات بتحويل الصفات الى أحوال للذات الإلهية، ورد ذلك بقوله: "الله هو عالم لذاته بمعنى ذو حالة هي صفة المعلومية". إن الكلام في نفي الصفات، وغيره من المسائل، بدا وكأنه تعقيد لفظي مقصود من قبل معتزلة ومتكلمين آخرين، لكن المتفق عليه في تبرير هذا التعقيد أنه الكلام الدقيق، وهو الفلسفة قبل أن تصبح هذه الكلمة مصطلحاً متداولاً. وتعريف الخياط المعتزلي لدقيق الكلام أو الفلسفة انها "غامض الكلام ولطيفه". وبلا ريب لا يخلو الكلام الدقيق في نفي القدر ونفي الصفات من مكانة ومعنى في الفكر، وربما تتوقف عليه أمور كثيرة في معرفة الوجود. ومع ذلك، هناك مجادلات عدة خاضها كبار المتكلمين، وردت مثل رياضة عقلية لا يرجى منها نتائج فكرية معينة، تهم حياة بالضرورة علم الكلام، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر، الجدال بعلم الله ومكانه، وطبيعة أهل الجنة وأهل النار، هل هم متحركون أم ساكنون وغيرها. ويصف الخياط هذه المجادلات بقوله: "انما كان العلاف يتكلم في هذا الباب، الذي ذكرناه، عن طريق النظر، ويشحذ به الافهام ويستخرج قوى المناظرين". وضع المعتزلة أسساً قويمة لظهور فلسفة مع أن عبدالقاهر البغدادي في كتابه "الفرق بين الفرقِ" يصف شيوخ المعتزلة بأبناء السبايا، ويصفهم الشهرستاني بمخانيث الخوارج. ولا شك في أن المعتزلة تأثروا بفلسفات أخرى منها الفلسفة الافلاطونية والارسطية، وببعض ما وصل من فلسفات الهند، وكذلك بالفلسفة الايرانية القديمة، التي كثيراً ما ناظر المعتزلة أقطابها من موبذات المجوس. ولكن ليس من الانصاف أن ينكر على المعتزلة إبداعهم الفكري، حتى اعتبروا مجرد ناسخين للفلسفة اليونانية، حسب وصف خصومهم في الفكر، مثل عبدالكريم الشهرستاني وأبي حامد الغزالي وغيرهما. ومن أفكارهم الفلسفية، توصل معمر السلمي وبشر بن المعتمر الى القول في ذاتية حركة وتطور الأجسام وايجاد أعراضها، من لون ورائحة وطول وعرض، وكل ما يطرأ عليها. وتوصل ابراهيم النظام الى القول بالمداخلة والكمون في ظهور الأشياء بعضها من بعض بتدرج قانوني، وأن حركة الأجسام دائمة مطلقة، وأن السكون لا وجود له إلا في اللغة، فهو القائل: "الحركات هي الكون لا غيرها"، وهي العرض الوحيد، وباقي الأعراض ما هي الا أجسام شفافة، وأن الجسم يتكون من أجزاء لا نهاية في تجزئتها. وخالف النظام في هذه الأفكار أستاذه العلاف الذي اقتنع بأن الجسم يتكون من أجزاء محدودة، تنتهي بالتجزئة، كذلك خالف النظام معمر السلمي صاحب مقالة "السكون هو الكون لا غير ذلك". كذلك ناقش الفكر المعتزلي أموراً اجتماعية منها أصل اللغة، فمنهم من قال انها اصطلاح ومواضعة، ومنهم من قال انها توقيف. وتأملوا حالة الدولة الإمامة ومستقبلها، فلم يجعلوها أصلاً من الأصول، أي لا شرط لوجودها على الدوام، كما ذهبت الى ذلك المذاهب الأخرى. ولعل هشام الفوطي وأبو بكر الأصم ذهبا باشاراتهما الى أن الإمامة ليست بواجب الى القول باضمحلال دور الدولة السياسي والاجتماعي، بتعليل، جاء فيه: "ان الناس لو كفوا عن المظالم لاستغنوا عن الإمام". تم في هذا الكتاب دراسة أكثر من عشرين شخصية معتزلية، اضافة الى البحث في تاريخ وأفكار شخصيات كلامية أخرى. وكان في مقدم هذه الشخصيات الفقيه المعروف الحسن البصري الذي لا تربطه رابطة بالاعتزال، كما يشاع عنه ذلك، سوى أن مؤسسي الاعتزال واصل بين عطاء الغزال وعمرو بن عبيد الباب كانا من مرتادي مجلسه في مسجد البصرة، ولعل بحث تفاصيل حياته يكشف عن ظروف الحركة الفكرية والكلامية آنذاك، ويكشف أيضاً موقفه وفقهاء عصره من الاعتزال. أما الإمام أبو حنيفة النعمان والمقتولون الأربعة: الجعد بن درهم ومعبد الجهني وجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي فأمرهم له صلة بمقدمات ظهور الاعتزال الفكرية، فالمذكورون تبنوا تلك الأفكار بدرجات مختلفة من الوعي والمساهمة. وأضيف في طبعة الكتاب الثانية شخصيتان مهمتان في تاريخ الاعتزال هما البصري القاضي عبدالجبار والبغدادي ابن أبي الحديد.