في آثار قاضي القضاة الفكرية يبرز العديد من المقالات التي أكدها عن شيوخه المعتزلة. وبشكل عام كانت آراؤه مطابقة، الى حد ما، مع آراء الجبائيين، وعلى وجه الدقة كان قريباً جداً من مقالات أبي هاشم الجبائي، التي ظلت سائدة ومؤثرة فترة طويلة، فلم يظهر منْ يكتسحها بأفكار جديدة، حتى قيل أن الوزير الصاحب بن عباد تبنى تلك المقالات وأمر بتعميمها. وفي ذلك يعدّ قاضي القضاة حفيداً للمدرسة الجبائية، فأستاذه أبو عبدالله البصري كان تلميذاً لدى أبي هاشم الجبائي. ولعلَّ ما تفرد به قاضي القضاة مقالته في "التكليف"، وتوسعه في مقالة "التوليد"، ثم انشغاله في تاريخ الفرق الدينية غير الإسلامية، ومحاولته في الردِّ عليها. ويُعدّ الجزء الخامس من كتابه "المغني" تاريخاً في الملل والنحل غير الإسلامية. ووردت مقالة التكليف في كتابه "المجموع في المحيط بالتكليف"، اضافة الى إشغالها الجزء الحادي عشر من كتابه "المغني". فماذا يعني التكليف عند قاضي القضاة؟ يقول عبدالكريم عثمان: "إن الإنسان لم يوجد في هذا العالم إلا مكلفاً، فالتكليف هو الذي يحدد صفة الإنسان، وماهية العلاقة التي تربطه بعالمه الإنساني، وبالعالم الإلهي، وبعالم المخلوقات الأخرى. وهكذا فأن هناك مكلَّفاً هو الإنسان، ومكلِّفاً هو الله تعالى، وموضوعاً للتكليف، وثمرات وأغراضاً ينتهي إليها هذا التكليف"1. ويتم التكليف بطريقين: "أحدهما بأن يفعل الله تعالى فيه العلم، وهو الذي نسميه ضرورياً، والثاني بأن ينصب له على ذلك دلالة يستدل بها"2. والطريق الأول هو المعرفة الضرورية، وهو ما قاله ثمامة بن أشرس وأبو عثمان الجاحظ، والطريق الثاني هو المعرفة المكتسبة. وعلى رغم أن قاضي القضاة اعترف بالمعارف الضرورية كطريقة من طرق المعرفة الموجبة للتكليف، إلا أنه قال بالتوسط بينها وبين المعرفة بالتقليد، فيكون منهما المعرفة بالنظر. وقال في رده على مقالة المعارف الضرورية "إنه تعالى لو كان العلم به ضرورياً فطرياً لوجب أن لا يختلف العقلاء فيه، كما في سائر الضروريات من سواد الليل، وبياض النهار، ومعلوم أنهم مختلفون فيه، فمنهم منْ أثبته، ومنهم منْ نفاه"3. ورمى قاضي القضاة، في مقالته المذكورة، الى تكليف الإنسان باعتقاد التوحيد والعدل، ومنهما تتفرع المقالات الأخرى، أي أن يكون معتزلياً. ولعلَّ كلمة التكليف هنا تُلغي الإختيار، فيعود الأمر معرفة ضرورية، ورد ذلك بقوله "أعلم أن مدار هذا الباب الذي جعلناه أول ما يلزم المكلف معرفته على أُصول خمسة، أولها إثبات الطريق الى الله تعالى، والثاني أن المحدثات لا بد لها من محدث، والثالث ما يستحقه هذا المحدث من الصفات التي تجب لذاته، والرابع ما يجب نفيه عنه من الصفات التي لا تصح عليه في كل حال، أو في بعض الحالات، والخامس أنه واحدٌ في هذه الصفات فلا أحد يشاركه في مجموعها نفياً وإثباتاً، ولا في أحدها أن يستحقه على الحد الذي استحقه الله تعالى". حاول قاضي القضاة، انطلاقاً من مقالة التكليف، تفنيد مقالة شيوخه في الكمون والمداخلة، محتجاً بأنها تؤدي الى الجبرية، أو الحتمية في أفعال الأجسام، والاعتراف بقدم الاعراض التي تخلقها الأجسام، حسب مقالات المعتزلة السابقين. لكن الجبرية التي نقضها في تلك المقالة لا تعني أفعال الإنسان، وإنما اختصت بالطبيعة، ومنها طبائع الإنسان. فالنار تظهر من الأجسام بالإحتكاك، ولكن ليس كل الأجسام تكمن فيها النار، وكذلك كمون الزيت في الزيتون. ان ما عناه إبراهيم النظام، الموصوف من الغلاة في القول بنفي القدر، في الكمون والمداخلة كان أمراً فيزياوياً وفلسفياً معاً، أشار فيه الى التفاعل بين الأشياء. وما يؤكد عدم الجبرية، بما يتعلق بأفعال الإنسان في تلك المقالة، أنها نُقدت من قبل الجبريين، مثل ضرار بن عمرو. وما نراه في هذا الأمر أن القائلين بمقالة الكمون والمداخلة كانوا فلاسفة، يأخذون ما توصلت اليه العلوم الطبيعية بنظر الاعتبار، أما قاضي القضاة فكان أقرب الى الفقه والكلام منه الى الفلسفة. فما قيل عنه انه "بلغ في الفقه مبلغاً عظيماً، وله اختيارات، ولكن وفر أيامه على الكلام"4. ولعلَّه من الغريب أن يتهم معتزلي بصري شيوخه من معتزلة البصرة بتبني أفكار دهرية، أو ما هو أسوأ منها. يستعرض قاضي القضاة مقالات شيوخه في التوليد، أو ما يعرف بالفعل المولد عن فعل الإنسان المباشر، مثال ما يحدث للحجر بعد دفعه، وهي كالآتي بتصرف "قال ثمامة: كل المتولدات ما عدا الإرادة حدثاً لا محدث له، وقال الجاحظ: كل المتولدات ما عدا الإرادة، مما يقع طباعاً، وأنه لا يقع باختياره إلا الإرادة، وقال النظّام: إن كل ما جاور غير حيز الإنسان فهو خلق الله تعالى، بإيجاب الخلقة، وقال السلمي: إن المتولدات أجمع، وكذلك جميع الأعراض فهي فعل الأجسام الموات بطباعها، وقال البغداديون، بشر بن المعتمر وتلامذته: كل ما يحدث عند فعل من جهتنا فهو من فعلنا، حتى اللون والطعم والإدراك والعلم وغيرها فعلاً لنا"5. وبعد التذكير بآراء شيوخه، بالتوليد، يأتي برأيه الذي يفيد بأن كل الأفعال، من المتولدات وغيرها، هي من فعل الإنسان، ورد ذلك بقوله "الذي عندنا، أن كل ما كان سببه من جهة العبد حتى يحصل فعل آخر عنده، وبحسبه، واستمرت الحال فيه على طريقة واحدة، فهو فعل العبد، وما ليس هذا حاله فليس بمتولد عنه، ولا يضاف اليه على طريقة الفعلية، ثم لا يجوز أن يحدث ولا محدث له". وفي رأي آخر يخص التوليد، قال قاضي القضاة بما يتعارض مع نفيه للكمون والمداخلة في الأجسام، ورد ذلك في قوله إن بياض الدبس بعد ضربه أو طرقه لا يتحدث من لا شيء، بل حدوثه يأتي من "أجزاء فيها بياض وهي كامنة، ولكنها تظهر عندما تضرب، لأنه به تزول الأجزاء السواد، ويؤثر في ظهور بياضه ما يستعان عليه من بياض البيض والدقيق وغير ذلك، ولولا صحة ما قلناه لوجب في كل جسم يحصل فيه الضرب نحو القار وغيره أن يظهر فيه البياض لاحتماله له، وكان يجب أن يحصل بأولى ضربه لحصول الاحتمال. وكذا الحال في ظهور السواد عند خلط الزاج والعفص، ونحو هذه الطريقة تسلكه في ظهور الحمرة عند ضرب بدن الحي، وعلى هذا تحصل تارةً الحمرة، وأخرى الخضرة والصفرة. ففي كل هذه دلالة ظاهرة على أن هذه الأعراض حالةٌ في أجزاء كامنة، وما لم يثبت حدوث الشيء لا يصح القول بأنه يتولد أو لا يتولد"6. ويحدد في كتابه "شرح الأصول الخمسة" أصلين رئيسيين فقط من أصولهم الخمسة، وهما: التوحيد والعدل. أما الأُصول الثلاثة، المنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيعتبرها متفرعات من الأصلين المذكورين. لكن الواضح من معاني الأُصول الثلاثة أنها متفرعات من الأصل الثاني فقط، فكلها تختص بتحقيق العدل. ويفسر قاضي القضاة أسباب الخلاف مع الآخرين، في نطاق الموقف من الأُصول الخمسة فقط، بقوله "ألا ترى بأن خلاف الملحدة والمعطلة والدهرية والمشبهة قد دخل في التوحيد، وخلاف المجبرة بأسرهم دخل باب العدل، وخلاف المرجئة دخل باب الوعد والوعيد، وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين، وخلاف الإمامية دخل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"7. وتفسير ذلك أن منْ سموا بالمعطلة خلوا بالتوحيد، على طريقة المعتزلة، لإثباتهم الصفات، وأن المشبهة جعلوا الله على صورة وهيئة جسمية. وحال الإثنين، كما يعتقد المعتزلة، حال منْ أنكروا وجود الخالق مثل الدهرية، الذين قالوا: "ما يهلكنا إلا الدهر"8، وأن المجبرة أثبتوا القدر، خيره وشره من الله، ويعني ذلك تعطيل أصل العدل، حيث لا مبرر للثواب والعقاب، أما بقية المختلفين فكان خلافهم، مع المعتزلة، في فروع الأصل الثاني، فقال الخوارج بتكفير صاحب الكبيرة، وقال المرجئة بإرجاء الموقف منه، وأن الإيمان إيمان القلوب، ولعلَّ الخلاف مع الإمامية، في الإمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان حول القول بالتقية". برز في كتابة تاريخ الملل والنحل عدد من شيوخ المعتزلة، منهم الناشىء الأكبر في "الكتاب الأوسط"، وأبو قاسم البلخي في "مقالات الإسلاميين". وشغل ذلك التاريخ الجزء الخامس من كتاب قاضي القضاة "المغني"، لكنه اختص بالأديان غير الإسلامية فقط. ويعترف، في مقدمة ذلك الأثر، بفضل أبي محمد النوبختي، صاحب "فرق الشيعة"، جاء ذلك بقوله: "ونعتمد في كل ما نحكيه على ما أورده الحسن بن موسى في كتاب الآراء والديانات، لأنه موثوق بحكايته". ومصدر قاضي القضاة، "الآراء والديانات"، لم يظهر، على حد علمي، للوجود، وقال عنه النديم في "الفهرست" أنه لم يكتمل. وبرواية النديم أيضاً أن المعتزلة كانت تنسب مؤلفه، النوبختي، إليها، وكذلك فعل الشيعة. ومن الأديان التي أرخ لها ونقض عقائدها في كتابه المشار اليه: المانوية، والديصانية، والمزدكية، والنصارى، والصابئة غير المندائيين، وأديان العرب قبل الإسلام. ولا ندري ما هو عذره في استثناء أديان أخرى مثل اليهودية والهندية والبوذية أو السمنية التي سبق أن جادلها شيوخ المعتزلة الأوائل. كان ذلك على رغم أن المصادر تُشير الى وجودها في كتاب "الآراء والديانات" المذكور. ويسمي قاضي القضاة عند ذكر المانوية منْ تبناها من المسلمين، فقد كشفت حملة العباسيين على الزندقة أن هناك أعداداً غير قليلة انضمت اليها، كان أبرزهم عبدالكريم بن أبي العوجاء، وبشار بن برد، وأبو عيسى الوراق، وابن المقفع وغيرهم. وكانت المانوية، كما يصنفها التاريخ الإسلامي، ديانة من الديانات الثنوية القائلة: "إن العالم مركب من شيئين، نور وظلمة، وهما قديمان، لم يزالا ولا يزالان، وأحالوا من المستحيل حدوث شيء من الصنعة والتركيب، إلا من أصل قديم"9. وحسب عقائدهم كانوا ينسبون الخير ومتعلقاته من الحياة والجمال الى النور، وينسبون الشر ومتعلقاته من الموت والقبح الى الظلمة. من الصعب الإلمام بكامل تفاصيل تركة قاضي القضاة الفكرية والكلامية فهي واسعة، وما تركه وظهر في المكتبات، من المؤلفات، كان ثروة كبيرة، ولعلَّ وجود القسم الأعظم منها يثير التساؤل، فلم يكن حظ شيوخ الاعتزال الآخرين مثل حظه في حفظ مؤلفاتهم. وكما قيل، يعود الفضل في ذلك الى بعض أئمة صنعاء الزيديين، فقد "حدث في أوائل القرن السابع الهجري أن تولى إمارة اليمن المنصور بالله الزيدي، وكان عالماً، فأرسل بعثتين الى المشرق الإسلامي وخراسان وما حولها، فاستنسختا الكثير من كتب المعتزلة، وحملتاها الى اليمن، وبقيت هذه المخطوطات مجهولة مع سائر الكنوز، التي كانت تحويها مكتبات اليمن في الجوامع، أو دور العلم، حتى بعثت الحكومة المصرية في أوائل الخمسينات بعثة لتصوير بعض المخطوطات في اليمن، كان ذلك في سنة 1952، ومن أعضائها كان فؤاد السيد"10. أحصى الحاكم الجشمي في "شرح العيون" مجموع أوراقه المخطوطة بأربعمئة ألف ورقة، تشغل أكثر من أربعين كتاباً، من غير عدِّ الأجزاء، ف "المغني" وحده يتكون من عشرين مجلداً، ظهرت مطبوعة تدريجاً، وما ورد عنه في هامش كتاب "الذريعة الى تصانيف الشيعة" للشيخ آغا بزرك الطهراني يخلو من الصحة، وللفائدة أذكر ما ورد حول المجلد العشرين، الخاص بالإمامة: "فلم يذكره أحد من مترجميه أصلاً، ولم ينقل عنه مؤلف في كتاب غير السيد المرتضى الى اليوم، مما يدل على ضياعه حتماً، وما ذكره بعض المعاصرين من وجود نسخة منه في اليمن في ثمانية عشر مجلداً فممتنع نهائياً لأن أبا الفداء عد أعظم مؤلفاته في مجلدين"11. وبطبيعة الحال، أن أبا الفداء متأخر عن عصر صاحب "المغني" بثلاثة قرون، وهو مقيم بالشام، ومعظم مؤلفات قاضي القضاة كانت بهمذان والري وخوارزم. وفي تاريخ المعتزلة ألف قاضي القضاة كتاب "طبقات المعتزلة"، وكان بطلب من أمير خوارزم مأمون بن مأمون قتل 407ه، قال القاضي مشيداً بالأمير والمعتزلة معاً "يجب أن أملي كتاباً في أن مذهب المعتزلة هو الذي يقتضيه العقل والكتاب والسُنَّة، فرأيت التسرع الى ذلك واجبا"12. إضافة الى تلك الثروة المخطوطة، خلف قاضي القضاة تلامذة اشتهروا بعده بالكلام والفقه والقضاء، منهم: الشريف المرتضى، والقاضي أبو القاسم التنوخي، والمتكلم أبو رشيد النيسابوري وغيرهم. وما لم يسع له المجال مناظراته مع المتكلم الإمامي الشيخ المفيد، وردود الشريف المرتضى في كتاب "الشافي في الإمامة"، على كتابه "المغني" فيما يخص الإمامة منه. الهوامش 1 نظرية التكليف، ص 9. 2 القاضي عبدالجبار، المجموع في المحيط بالتكلف، 1 ص 3. 3 القاضي عبدالجبار، شرح الأُصول الخمسة، ص 54. 4 شرح العيون، ص 367. 5 المجموع في المحيط بالتكليف، 1399. 6 المصدر نفسه، 409 7 المصدر نفسه، 32. 8 سورة الجاثية، 23. 9 المغني في أبواب التوحيد والعدل، 5 ص 10. 10 نظرية التكليف، ص 6. 11 القاضي عبدالجبار، طبقات المعتزلة فضل الاعتزال ص 137 - 138. 12 الذريعة الى تصانيف الشيعة، 13 ص 8. * باحث عراقي