عام 1919 قال ت. س. إليوت إن العقل البشري ليس فضولياً بما فيه الكفاية ولا يملك الشجاعة اللازمة لدراسة روديارد كيبلينغ. وفي السيرة الجديدة الصادرة عن دار ويندفيلد بقلم اندرو ليسيت يتبدى معنى تلك الملاحظة من خلال المؤثرات التي تركها كيبلينغ في شعر إليوت، خصوصاً في قصيدته الشهيرة "الأرض الخراب". إلا أن السيرة الجديدة، بعد ثمانين عاماً على تصريح إليوت، لم تأت لتغسل كيبلينغ من ادران آرائه المغايرة لكتاباته، ومواقفه الطافحة بالعنصرية وضيق الآفق، إنما جاءت تدقق في التناقضات الحادة في شخصية كيبلينغ وظروف زمنه، علماً أن اندرو ليسيت هو السادس في قافلة كاتبي سيرة مؤلف "كيم" وشاعر "لو"، القصيدة المعتبرة أكثر القصائد انتشاراً في اللغة الانكليزية. ويقتفي ليسيت آثار كيبلينغ حتى مذكراته الباكرة وقصصه القصيرة عندما كان يافعاً في الهند مع والديه. هناك ظهرت أولى تناقضاته، فبينما عبّرت قصصه عن تسامح ليبرالي يقرب حدّ الوقاحة، نسبة إلى زمنه، في قبوله قيام علاقة جنسية بين الهنود والأوروبيين، عبّرت مذكراته عن ازدراء واضح "لابناء البشرة البنية" إذ يرتدون الملابس الأوروبية. من جهة أخرى تراه يدخن الحشيشة وفي النسخة الأولى لروايته "كيم" يصف "غرزة" افيون تملكها امرأة ايرلندية في لاهور. "قصص السهل من التلال" لاقت نجاحاً كبيراً فور صدورها مع أنها لم تكن خالية من بعض اللفتات المسيئة إلى الهنود. لكن الوكيل الأدبي أ. ب. واط الذي تلقف موهبة كيبلينغ وشجعه على العودة إلى انكلترا. دأب لاحقاً على تنقية الغث من السمين في أدب كيبلينغ وانصاع الأخير إلى نصائحه مدفوعاً بنجاحه وحبه للثروة. ويبدو ذلك التبدل واضحاً إذا قوبل بكتب الأدغال التي صدرت حين كان الكاتب في العشرين من عمره، حين سلك الراوي طريق الواعظ الفوقيّ، بينما يحتفل كيبلينغ في "كيم" بالتسامح والروحانية الشرقية من دون أثر للمكابرة، وكان بلع الثانية والثلاثين. صدر "كيم" في مطلع القرن الفائت عام 1900 وكانت عودة كيبلينغ إلى انكلترا انضجت تجربته الشرقية، فوضع في شخصية اللاما المثال المناهض للروح العسكرية الغربية وهي في أوج نشوئها. لكن ذلك لم يقف حائلاً دون استمرار ظاهرة التناقضات: في قصة "كيف حصل الفيل على خرطومه" ينتقل كيبلينغ من نصح الفتى الهندي بسماع حكمة أجداده والانضواء في تراثهم، إلى تصوير الفتى عاصياً نصائح الأجداد مندفعاً نحو المغامرة بلا هوادة. في تلك الأثناء ذاعت شهرته ككاتب ليبيرالي "تقدمي" يكاد يكون معولماً: بلغة هذه الأيام، أما أفكاره في رسائله الخاصة وأحاديثه فلم تكن في الخانة نفسها على الاطلاق. مرة كتب "يهنئ" صديقاً له في جنوب افريقيا على انتشار وباء الطاعون بين أفراد الجالية الهندية هناك، لقناعته بأن الهنود مصدر قلاقل في الجنوب الافريقي. وباعتباره ماسونياً طالما اعتقد بأن الحرب العالمية الأولى ما كانت لتقع لولا التدهور الخلقي في أوروبا، وان الماسونية كان في مقدورها أن توقف مثل تلك الحرب. الثورة البلشفية في نظره هندسها اليهود، والنظرية النسبية ساقطة لأن اينشتاين "عبري" حسب قوله. ويكشف ليسيت أيضاً أن هنري جيمس تنبه باكراً إلى تناقضات كيبلينغ وكتب إليه: "تخلّص من ترهات الشؤون العامة، وانصرف إلى فنك، فما تبقى هباء، اسأل اللاما". لكن الفتى عصى ولم يسمع.