ويح الإنسان المعاصر ماذا أصابه؟ بهذه الصرخة زفرت روحي وأنا أقرأ العمود اليومي لأحد الكتّاب العرب الذي باح فيه في لحظة صدق قائلاً: "خاب أملي بالحياة كلها...". وقيمة هذه الشهادة تأتي من كونها صادرة من إنسان يسكن الآن في أرقى أحياء لندن، ويتمتع برفاه مالي جيد جداً، وشهرة واسعة، ويستطيع متى أراد أن يسافر إلى أي بقعة من العالم، وهو قادر على الحديث مع أي شخصية مهمة. والرجل باختصار لم يبق في نفسه سوى القليل من الأمنيات ليحققها، وهو غارق في تخمة الحظ السعيد الذي اغدق عليه كل هذه النعم. وهذا التصريح يعد مادة حيوية للمناقشة وتخصيب الأفكار، فنحن أمام نموذج للنجاح اللامع الذي يمتلك أغلب شروط السعادة من وجهة نظر المجتمع. ترى هل هي حالة فردية تعاني من أزمة ما؟ كلا... بل هي عامة تصيب الغالبية، ولكن الذي يكتشفها في نفسه قلة قليلة من ذوي البصائر النيرة، والوعي المعذب الشقي. إنها لوعة الإنسان الحديث الذي انتجته قوالب الحداثة، ودفعت به صوب الهاوية ومتاهات نمط الحياة الذي صاغته بغرورها، وعدوانيتها الشرسة ضد روح الإنسان ورحابتها. سحقت الحداثة براءة الإنسان وأزاهير روحه بسنابك العقل وجبروته المتعالي، وهتفت للعقل باعتباره البعد الأوحد الذي يستحق التمجيد، حتى جاء "فرويد" ليوقف هذا الصخب ويميط اللثام عن واحدة من أكبر الخدع، ويقوم بعملية تعرية كبرى للإنسان... كاشفاً عن الأبعاد السحيقة "اللاشعورية" لمكوناته، ومبيناً ضآلة دور العقل في حياته .... بعدها أخذ أصحاب البصائر النيرة يعيدون استئناف النظر بمسلمات الحداثة، ومقولاتها، واختزالاتها للإنسان، وهالهم ما اكتشفوا من حقائق مرعبة، وكان في مقدمها غياب المعنى للحياة، فتوجهوا أفواجاً صوب الرومانسية، والسوريالية، والفنون، والسحر، بحثاً عن آفاق جديدة، ولحظات هانئة تشعرهم بمعنى الحياة. إن أطر الحياة المعاصرة تمارس اضطهاداً مؤلماً ضد فعاليات الروح في الإنسان. فلا غرابة أن يشعر إنسان ناجح، مترف... بخيبة الأمل من الحياة طالما بقيت الأبواب موصدة أمام فعاليات الروح. دمشق - خضر طاهر