الكتاب: الشهود الحضاري للامة الاسلامية. المؤلف: عبدالمجيد النجار. الناشر: دار الغرب الاسلامي - بيروت 1999. هذا كتاب جديد للدكتور عبدالمجيد النجار الباحث التونسي المتخصص في الدراسات الاسلامية بعنوان "الشهود الحضاري للامة الاسلامية"، ويشمل ثلاثة اسفار كبرى: الاول بعنوان "فقه التحضر الاسلامي" والثاني بعنوان "عوامل الشهود الحضاري" والثالث بعنوان "مشاريع الاشهاد الحضاري". وتتأطر الاجزاء الثلاثة ضمن اشكالية النهوض الحضاري الاسلامي والآليات الموصلة لذلك في ظل الاوضاع التاريخية الراهنة للمسلمين. وتضمنت خاتمة المشروع عرضاً نقدياً لأهم تجارب النهوض الاسلامي خلال القرون الثلاثة الاخيرة. يتناول الجزء الاول من البحث الأسس الفلسفية والاخلاقية الكبرى التي يتأسس عليها مشروع "التحضر الاسلامي". فالحضارة لكي تكون موصوفة بمعاني الاسلامية، كما يقول المؤلف، يجب ان تقوم على ثلاثة شروط رئيسية: اولاً ان تقوم على مبدأ الاستخلاف الشامل في بعديه العقائدي والشرعي، ثانياً ان تلتزم مبدأ الشهادة على الناس. بمعنى ان الحضارة الاسلامية هي حضارة انسانية في اساسها التكويني والمقصدي لأنها تهدف الى خدمة الانسان وتتجه اليه بالترقي سواء في ذاته الفردية او الاجتماعية، وثالثاً مبدأ التسخير او ما اسماه الكاتب بالارتفاق الكوني ومعناه ان فلسفة التحضر الاسلامي تقوم على تعامل استثماري نفعي لمخزونات الكون ولكن وفق تسديد خلقي يقوم على علاقة رفق ولطف بالكون لا علاقة اتلاف او تدمير او تلويث. الجزء الثاني من البحث يتناول عوامل الشهود الحضاري التي يعتبرها الكاتب شروطاً موصلة لسبل التجدد والنهوض الاسلاميين والتي يختصرها في خمسة عوامل: اولها الاحاطة الدقيقة بمعطيات الواقع الاسلامي بغاية الوقوف عند العوامل الكابحة لطاقة النهوض الاسلامي وشد المسلمين الى واقع الخمول والتثاقل الحضاري. ثانياً ترشيد الاساس التصوري العقدي حتى يكون اصلاً مسدداً في مجالي النظر والعمل ومبعث يقظة الفرد والمجتمع. ثالثاً اصلاح الفكر من خلال اصلاح مناهج العقل الاسلامي حتى تكون قائمة على الشمولية والواقعية والتوحيد والنقدية بما يضمن اكثر ما يمكن من مقادير اصابة الحق سواء في مجال النظر او العمل. رابعاً توافر شروط ما اسماه المؤلف النفير الحضاري، والمقصود بذلك العمل التأطيري الباعث للنشاط وتجدد الحركة ومن ثم الانفكاك من اسر العطالة والجمود حتى تنطلق تلك التعبئة في نسيج متكامل البنيان والحلقات. خامساً سلطان العمل والانجاز، والمقصود بذلك بعث السلطان الاجتماعي ممثلاً في المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ومجالات الانتظام الاهلي المستقل الى جانب المؤسسات السياسية من احزاب وهيئات رسمية وحكومية القائمة على الشأن الاسلامي العام. وجاء الجزء الثالث تحت عنوان مشاريع الشهود الحضاري، وتناول بالدرس مختلف التجارب الاصلاحية التي قامت بين المسلمين والتي تبتغي الدفع الى التحضر الاسلامي. وقد قسمها الباحث الى ثلاثة روافد اساسية: اولاً المشروع السلفي الذي يقوم على مطلب الدعوة الى نصوص الوحي مباشرة ومدافعة ما طرأ في حياة المسلمين من البدع والحوادث والانحرافات مع الحث المستمر على الاجتهاد وتجديد النظر ومسالك العمل. ثانياً المشروع الاصلاحي التحرري الذي يبتغي تحرير الامة من عوامل الوهن والخمول الحضاري تحريراً ينحو منحى الشمولية الجامعة فكراً وسياسة واجتماعاً وارادة وذلك باعادة صلتها بمنبع الوحي ليكون موردها في الاعتقاد والتشريع ودفع صائلة الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية عنها، مع الاستفادة من الفكر وادوات التمدن الغربي وقد تراوح ذلك عند اعلام هذا التيار بين الاكتفاء بالأخذ بالعلوم والصنائع الغربية وبين ضروب من الاستنساخ الذي يطال مجالات الفكر والمنظور الفلسفي، وقد ركز رموز هذا التيار على عوامل التربية والتأهيل الفردي مع استعمال وسائل النشر والكتابة ولكن مع ما يشبه الاهمال التام لأدوات العمل الجماعي المنظم، ويدرج الدكتور النجار ضمن هذا التيار كلاً من الطهطاوي والسيد احمد خان وخير الدين التونسي وجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبدالرحمن الكواكبي وعبدالحميد بن باديس. ثالثاً تيار الاحياء الشامل ويقوم هذا التيار، كما يقول الكاتب، على احياء ايماني شمولي في نفوس المسلمين يعيد فيهم صياغة شخصية الفرد والجماعة صيغة تجدد الفكر وتحرر فيهم بواعث العزم والارادة وتخلصهم من دواعي التراخي والانهزام النفسي في اطار موقف متوازن من الغرب يدعو الى الانتفاع بعلومه وصنائعه وادواته التنظيمية مع اخذ موقف نقدي من ابعاده الثقافية واصول نظمه الاجتماعية. اما من حيث المنهج فقد قام هذا التيار، كما يقول الدكتور النجار، على الاستنفار الشامل لقوى الفرد والمجتمع. ختم النجار هذا الجزء بخلاصة تعقيبية تناولت بالتقويم والنقد مجمل مشاريع النهوض الاسلامي وذلك بمقايستها من حيث مناهجها وأساليبها بالمبادئ الاسلامية الكبرى الموجهة للحضارة الاسلامية على النحو الذي عرضت فيه في الجزء الاول، وكذلك بالعوامل التي من شأنها ان تدفع الى النهضة الحضارية الاسلامية كما وقع عرضها في الفصل الثاني، ووقعت استنتاجات تتعلق بما وفقت فيه هذه المشاريع التي عرضت من تلك المبادئ والعوامل وما قصرت فيه، وما ترتب عن ذلك من ضروب النجاح والفشل ومن توفيق واخفاق كما يبدو في واقع الامة الاسلامية من حيث وضعها الحضاري القائم اليوم، مع التوجيه الى ما عساه ان يدفع بالامة الاسلامية اليوم الى تفعيل مسيرتها في سبيل استئناف سبل النهضة الحضارية الاسلامية وعد المؤلف بأنه سيتبع هذه الاجزاء بجزء رابع يتناول فيه بالبحث المشروع الفكري للنهضة الاسلامية وعند مجموعة من المفكرين والمؤسسات المشتغلة بمشروع الاصلاح الفكري الاسلامي وتجديد مهمة النهوض الاسلامي الشامل.بشيء مين التقييم السريع يمكن القول ان اهمية هذا المشروع الذي خطه الدكتور عبدالمجيد النجار تتمثل في اجلاء الاسس الفكرية والاخلاقية الكبرى المؤسسة لمشروع النهوض الاسلامي وفي مقدمة ذلك مفهوم الاستخلاف الاسلامي في وجهيه الوجودي والفلسفي الذي اولاه الكاتب اهمية خاصة في مؤلفه الجديد كما سبق له ان افرده مؤلفاً مخصوصاً تحت عنوان "خلافة الانسان بين الوحي والعقل". فقيمة الاستخلاف الاسلامي تقع بين ضربين من المعالجات الفلسفية التي حكمت الوعي الديني والفلسفي سواء في صوره القديمة او المحدثة. الاول هو المعالجة الروحانية الحلولية التي كانت لها ارتساماتها الواضحة في ديانات وفلسفات الشرق الاقصى التي نزعت منزعاً حلولياً لا يميز بين عالم الانسان والطبيعة والارواح الخفية، وقد كان لهذه الفلسفات نزر كبير من التأثير في بعض اتجاهات الفكر الاسلامي ذات الملمح الاغنوصي الباطني خصوصاً بين حلقات المتصوفة واهل الذوق العرفاني. اما المعالجة الثانية فهي التي نزعت مترعاً حلولياً مادياً انتهى الى اذابة المعنى الديني في عالم الضرورة الطبيعية واذابة الوجود الالهي المتعالي في الوجود الانساني المحايث على نحو ما هو غالب على فلسفات الحلول المادي المعلمن في مجرى الفكر الفلسفي الغربي الحديث والذي يبرز بصورة جلية خاصة في فلسفة سبينوزا ومن بعده الفيلسوف الالماني هيغل حيث عمل كل منهما على تحويل وجهة التراث اليهودي المسيحي نحو حلولية مادية صارمة. في مقابل ذلك ينبني الاستخلاف على معنى الانابة الانسانية في الكون وما يقتضيه ذلك من قيم الحرية والمسؤولية ولكنها حرية موصولة بالله دونما حلولية معطلة للفاعلية الانسانية او حاجبة للحضور الالهي في عالم الامر والخلق. الوجه الاضافي الذي تميز به مشروع الدكتور النجار هو اتجاهه التركيبي الشمولي والواقعي الامر الذي دفعه الى تفحص مجمل تجارب النهوض الاسلامي الحديث خلال القرنين الاخيرين بسعة في الافق والنظر وبروح نقدية حية استطاعت ان تستقرئ الخط العام لحركة الاصلاح الاسلامي وان تستبين المكاسب والمنجزات من العثرات والسقطات ضمن منهج نقدي بنائي يبتغي مزيد المراكمة على حصائل المنجزات والمكاسب السابقة مع الانتباه الى مواقع الخلل والقصور في الكسب التاريخي لحركة الاصلاح الاسلامي.