مات "العم" جورج عبدالمسيح، كما كان يحلو له ان يناديه الناس. وهو أحد التاريخيين في الحزب السوري القومي الإجتماعي الذي كان فكر مؤسسه الزعيم انطون سعادة، لصيق الرجل الى حد استعاض به عن الزواج، فكان اول قومي يقسم اليمين امام مؤسسه، وأول من نال رتبة "الأمانة" فيه، وأول رئيس للحزب بعد إعدام سعادة في العام 1949، وأول من انشق عنه بعد طرده منه عام 1957. وبموت عبدالمسيح، إبن ال91 عاماً، يأمل قادة الحزب السوري القومي الإجتماعي ألاّ يُدفن معه سر مكان دفن جثمان سعادة، الذي تقول الروايات أن عبدالمسيح تولى نقله، من مكان دفنه في باحة مدافن مار الياس بطينا في بيروت بعد إعدامه، الى مكان مجهول ائتمن عليه رئيس الحزب الجناح الذي مثله عبدالمسيح وبقي منفصلاً عن الحزب الذي يترأسه الآن علي قانصو انطوان ابي حيدر وعميد الخارجية فيه يوسف قائدبيه طول حياته. فإذا كانت الروايات صحيحة يفترض أن ينكشف السر، ويصبح من يملكه في حل منه، على رغم ان الدكتورة صفية سعادة، ابنة الزعيم، رجحت في مقابلة تلفزيونية ان يكون عبدالمسيح دفن الجثمان في حديقة منزله في بيت مري. وبرحيل عبدالمسيح تنقضي حقبة من تاريخ فكري وثقافي، لبست الرجل وسكنته وجعلته ارثوذكسياً في فكر وإيديولوجية بقيا مدار سجال ونقاش وسط قوى التحرر العربي وأحزابه، فساهمت تلك "الأرثوذكسية" عنده في جعله رجلاً تجتمع فيه الثقافة والصرامة وقصر القامة والمظهر القروي، لتؤلف جاذبية طريفة عند مريديه. فتلك الحقبة هي حقبة حلف بغداد الذي أفضى الى ثورة 1958 في لبنان ابان رئاسة أسد الأشقر للحزب، فرفض عبدالمسيح مماشاته في الإشتراك في احداثها الى جانب كميل شمعون، واكتفى بإقامة مخيم لشباب الحزب الذين انشقوا معه عن رئاسة الأشقر، في بيت مري، للحؤول دون انضمامهم الى القوى العسكرية المتناحرة في حينه، وهو فعل الشيء نفسه في الحرب اللبنانية الأخيرة. وقبلها اتهم عبدالمسيح، الناشط بقوة، بأنه وراء التحريض على اغتيال قوميين حزبيين لعدنان المالكي في سورية، فأضيفت الى أحكام الإعدام الصادرة في حقه ومنها واحد من الحلفاء بتهمة التعامل مع ألمانيا النازية بسبب نشاطه الداعي الى سورية الكبرى، حكم آخر. واضطر، سنوات، الى ارتداء الكوفية والعقال، لعل ذلك يساعده على التخفّي بهدف إخفاء العلامة الفارقة فيه: إذنه المقطوعة بأسنان أحد محازبيه، جورج حداد، أثناء شجار على قضايا حزبية، فلم يجد حداد، الطويل القامة، في حينه سوى وسيلة عض الأذن للنيل من رفيقه. وإذ احتفظ "رئيس الحرس الأسود" باستقلاليته على رغم التقلبات التي عصفت بالحزب القومي الذي تعاقب على رئاسته عبدالله سعادة وإنعام رعد وعصام المحايري ويوسف الأشقر ومسعد حجل، وحصل انشقاق فيه بقيادة إنعام رعد ... ثم عاد الشقان فاندمجا تحت لواء قانصو، فانه أبقى حزبه "الثالث" على حاله الأرثوذكسية، مع امل لدى قوميي قانصو بأن يندمج قوميو عبدالمسيح معهم بعد مماته. لكن عبدالمسيح احتفظ ايضاً بعد انشقاقه بصداقة مع كثيرين من رجالات الحرس الأسود مدة طويلة امثال عبدالله القبرصي وسعيد تقي الدين وجورج مصروعة الذين كتبوا عنه ومدحوا صفاته. كان عبدالمسيح، حتى مماته، مرشد الحزب الذي يترأسه انطوان ابي حيدر. وظل لسنوات خلت قبل ان يمنعه تقدمه في السن، يعقد ندوات التبشير بفكر الحزب، مستخدماً "سحراً" كما يقول البعض، إذ كان في تلك الندوات يستوي في مقعده ويضع رجلاً على رجل، ثم يركّز فنجان القهوة على ركبته ويتركه ويبدأ الكلام بلغة خطابية متماسكة، فينشدّ المستمعون الى فنجان القهوة وإلى ما يقول فينساب الكلام الى عقولهم ويعجبون به. ونقل عنه الأديب سعيد تقي الدين القومي هو الآخر أنه حارب في فلسطين عامي 1936 و1938 في "فرقة الزوبعة". وقال فيه "ما هو بالشخص الذي شاع عنه انه بطّاش يسكر بالدماء. ولقد وجدته، بعد أن عاشرته وعاملته على كل السويات الشخصية والحزبية، انه طفل له جسد جبار وعقله، وله ثقافة الجبابرة". له مؤلفات عدة تتناول العقيدة السورية القومية ومئات المقالات والدراسات، ويعزى إليه الفضل في جمع الكثير من تراث سعادة الفكري وبينه "المحاضرات العشر". وكان عبدالمسيح توفي ليل اول من امس في منزله في بيت مري، وتجرى مراسم الصلاة لراحة نفسه ودفنه، الثالثة بعد ظهر غد الجمعة في كنيسة مار الياس في بيت مري.