مركز الملك سلمان للإغاثة ينظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع فبراير المقبل    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    "مستشفى دلّه النخيل" يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    السعودية تستضيف الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    المياه الوطنية: خصصنا دليلًا إرشاديًا لتوثيق العدادات في موقعنا الرسمي    ارتفاع أسعار النفط إلى 73.20 دولار للبرميل    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    سلمان بن سلطان يرعى أعمال «منتدى المدينة للاستثمار»    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    أمير الشرقية يرعى ورشة «تنامي» الرقمية    كأس العالم ورسم ملامح المستقبل    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    رئيس جامعة الباحة يتفقد التنمية الرقمية    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية تشريعية وقانونية يقودها ولي العهد    اختتام معرض الأولمبياد الوطني للإبداع العلمي    دروب المملكة.. إحياء العلاقة بين الإنسان والبيئة    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    توجه أميركي لتقليص الأصول الصينية    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    إسرائيل تتعمد قتل المرضى والطواقم الطبية في غزة    ماغي بوغصن.. أفضل ممثلة في «الموريكس دور»    متحف طارق عبدالحكيم يحتفل بذكرى تأسيسه.. هل كان عامه الأول مقنعاً ؟    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    الجاسر: حلول مبتكرة لمواكبة تطورات الرقمنة في وزارة النقل    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    الطفلة اعتزاز حفظها الله    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    أجسام طائرة تحير الأمريكيين    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معرفة بعض لبنان طوائف وعائلاتٍ، مناطق وأحزاباً سياسية 4
نشر في الحياة يوم 30 - 08 - 1999

قبل ايام قليلة، وفيما كنت ابحث في اوراق قديمة تركتها في بيروت، وقعت على 35 مقابلة شخصية سبق ان اجريتها في 1984. هذه المقابلات المتفاوتة حجماً، مع سياسيين وصحافيين، مهنيين وناشطين، لعبوا في هذه الفترة او تلك، دوراً عاماً ما، كان غرضها ان تخدم كتاباً عن الاحزاب اليسارية والمسلمة، لم استطع ان استكمل مقابلاته، ولا ان انجز قراءة مادته المكتبية والأرشيفية. ولهذا فالكتاب، في النهاية، لم يُكتب. وجدير بالذكر أن تعريف شخص ما او جماعة ما بالطائفة، لم يكن دائماً تبرّعاً من المتحدث، بل جاء غالباً جواباً عن سؤال مني. أما كلمة "الآن" فتردّ الى أواسط الثمانينات، والقياسات الزمنية تتم دائماً على ضوء هذا التاريخ.
المقابلات التي نُشرت أجريت مع: نهاد حشيشو ومحمد مشموشي وباسم السبع ويوسف الأشقر ومصطفى بيضون ونجلا حمادة ومسعود ضاهر وعبدالله الأمين ونقولا طعمة وحبيب صادق وجوزيف سماحة وحسان حيدر ويوسف الصميلي وأسعد فوّاز:
حسين الحسيني:
موسى الصدر/ البقاع
تعرّفي الى السيد موسى الصدر حصل في 1963 - 1964. لقد برز كرجل دين مختلف، وكان ذلك بحكم وفاة السيد عبدالحسين شرف الدين الذي اختاره ليحل محله. بدأ من صور، ثم راح يزور المناطق الاخرى كالبقاع، مدللا في اقواله وافعاله على سلوك وفهم عصريين.
في 1964 - 1965 بدأنا معه، ومع مجموعة كان بينهم احمد اسماعيل، وهو تاجر ومستورد وصاحب متجر للأدوات الكهربائية، والمحامي الجنوبي احمد قبيسي، والمحامي والشاعر البقاعي نجيب جمال الدين الذي كان قد ترشح في 1964 عن بعلبك - الهرمل ولم يحالفه الحظ. كنا آنذاك في اواخر عشريناتنا. في 1966 انضم نبيه بري وفخري علامة ومالك بدرالدين والمفوض في الامن العام مصطفى الحاج. ومنذ البداية كان في الصورة الشيخ عبدالامير قبلان. فمنذ 1959، ساهم السيد موسى في مجيء قبلان مفتياً. مذّاك بدأ تعاونهما. وفي 1970 التحق بالامام الشيخ محمد يعقوب، من قرى بعلبك، وكان الصدر يرسله الى الاماكن التي تتطلّب شجاعة. ومن الخارج كان الشيخ محمد مهدي شمس يتعاون معنا.
يومها كان ثمة اهتمام بأمرين: ان هناك، لدى الطائفة السنية، داراً للفتوى ومجلساً شرعياً اسلامياً برئاسة مفتي الجمهورية، مسؤولاً عن قضايا المسلمين، لكنه يضم اعضاء كلهم سنّيون. وهنا ترافق الشعور بضرورة ان يكون للشيعة تمثيل عادل، مع الانتباه الى ضرورة عدم اشعار السنّة بأية نيّة في الانتقاص، دع جانباً الاثارة والعداء. لكن حين رفض المفتي الجديد الشيخ حسن خالد التوصل الى عمل مشترك، وردت، في 1966، فكرة انشاء مجلس اسلامي شيعي اعلى. وفي 1967 اقِر القانون الذي تطلّب جهوداً جبارة لاقناع النواب به.
والثاني، وهو على صعيد المناطق. فالاجواء الشهابية وبعثة ايرفد اثارت اجواء اصلاحية. فلماذا لا تكون الاصلاحات اكثر جدية وشمولاً اذن؟ وكان من الانجازات الكبرى، والكثيرة، للصدر أنه أوقف التقاتل الجنوبي - البعلبكي في برج حمّود الذي كان كثيرون من الزعماء يحرّكون نعرته للافادة منه. وهذا بعض ما ازعج سياسيين كثيرين من السيد موسى وحركته.
في ما خص السياسات البقاعية، كان التحالف التقليدي ينهض بين الياس طعمة سكاف وجدي حسين الحسيني الذي كان شريك نخلة تويني في امتيازات معادن، وقد حكمهما الاتراك معا بالاعدام، لكنهم قبضوا على تويني دون جدي. هذا التحالف ضم ايضاً عباس ياغي والحاج عوض المقداد عن الشيعة، وفارس غنام، جد البير منصور لأمّه، عن الكاثوليك. وكان هؤلاء على صلة برضا الصلح، والد رياض ومحافظ البقاع في حينه، كما ربطتهم صداقة بخير الدين الاحدب وهو صهر زحلة تبعاً لزواجه بالكاثوليكية أولغا مسلّم. هذا التحالف رشّح السيد أحمد الحسيني ضد تامر حمادة، ثم رشّح صبري حمادة الذي درس في عينطورة ولم يكن ينتمي الى الجب الزعامي في عائلته. وأحمد الحسيني كان يترشح في جبل لبنان، فعائلات الهرمل وشمسطار اصلها من جبل لبنان وهما جزء من المتصرفية التي سبقت لبنان الكبير.
سونيا دبس: مشغرة
تقليدياً كانت طرابلسي عائلة كبيرة في مشغرة، وكذلك حال عائلات ابراهيم وناصيف، ومنها الموسيقار زكي ناصيف، وابو عرّاج ورزق ودبس. وهذه العائلات كلها كاثوليكية باستثناء ابراهيم الارثوذكسية التي تتزعم العصبية المناوئة لعصبية آل طرابلسي.
نفوذ آل طرابلسي بدأ مع سليمان طرابلسي الذي كان ملاكاً ونال البكوية من تركيا. ومشغرة، كقرى كثيرة، حارات. هناك الحارة الفوقا التي يشكل شيعة القرية اكثريتها. كذلك تقيم فيها عائلتا طرابلسي وابو عرّاج. وهناك في القرية ايضاً "حارة المسيحيّي" وتقيم فيها عائلات ابراهيم وناصيف ورزق وكرم وبعض عائلتي دبس وابو عرّاج. اما الحارة التحتا فشيعية كلياً، وهي حارة المصانع والعمال. وكانت اغنى عائلات مشغرة لجهة ملكية الارض، طرابلسي ورزق. وقد نما الحزب الشيوعي في عائلتي دبس وبطل: اولاهما عائلة كبيرة والثانية صغيرة، غير انهما تقيمان في الحارة الفوقا. ونما الحزب القومي في عائلة كرم وهي تصاهر عائلتي ابراهيم وناصيف اللتين ظهر فيهما قوميون. اما رزق وابو عرّاج فصاهرتا آل طرابلسي وتقرّبتا من حزبيتهم التقليدية. والعلاقات بين القوميين والشيعة أمتن تاريخياً من العلاقة الشيعية - الشيعية. وربما لعب دوراً في هذا القيادي القومي والشيعي من مشغرة، عبدالله محسن. وقد وقف القوميون مع النائب الشيعي عن قضاء زحلة، حسين منصور، وهو من الحارة التحتا أثرى عن طريق المهجر وعُرف بصداقة مزمنة مع القوميين.
وفي سياسات مشغرة، تزعّم الوجيه رفيق الدبس لفترة العصبية الملتفة حول آل طرابلسي، وقد عمل في الاجواء الشهابية وفي مشروع الليطاني وحصل على التزامات من الدولة. وقد قابله الوجيه البير كرم الذي سانده حسين منصور، وهو يملك دباغة ومعامل في شتورة، وقف ضد الشهابية وتزعم عصبية آل ابرهيم. والاثنان مفتاحان انتخابيان على صعيد القرى المحيطة بمشغرة.
والشيعة اكثر من نصف السكان، وهم "اصليون"، لا سيما وان هجرة مسيحية عريضة طرأت الى بيروت كما الى الخارج. لكن العائلات الشيعية صغيرة العدد، منها عمّار والحسيني وعواضة: الحسيني قريبون من حسين منصور ومتعاطفون مع القوميين، وعمار وعواضة اقرب الى آل طرابلسي. وبينما تقيم عمار في الحارة الفوقا تقيم الحسيني وعواضة في الحارة التحتا وتتنافسان على زعامتها. ويقيم في الحارة نفسها آل محسن، وعددهم صغير، كما تربطهم صلات قرابة بآل الحسيني. والمشترك بين مسيحيي القرية، لا سيما غالبيتهم الكاثوليكية، ان علاقة وثيقة تربطهم بقرية صغبين الكاثوليكية، فيما كانوا تقليدياً على شيء من حذر الطوائف المتلاصقة حيال جب جنين والقرعون السنيتين. اما العلاقات المسيحية - الشيعية فعموماً جيدة. المسيحيون كانوا تقليدياً مسيطرين اقتصاديا لأنهم ملاكو الدباغات والأراضي، والشيعة يعملون عندهم. لكن هذا ما تغير ايضاً بحيث بات الشيعة يشترون الاراضي والاملاك التي يخلّفها المسيحيون المهاجرون، وبدأ يجري تعديل في توازن القوى في القرية.
سعيد صعب: القوميون/ الدروز
انتخابات 1951 خاضها غسان تويني مع جنبلاط وشمعون وانور الخطيب وفضل الله تلحوق ضد لائحة الدستوريين التي تزعّمها مجيد ارسلان. يومها كان الحزب السوري القومي الاجتماعي ممنوعاً بسبب قضية رياض الصلح. وبعد نجاح تويني عمل مؤتمراً صحافياً في البرلمان قال فيه انه يتحدث كقومي اجتماعي. وبهذه الصفة اشترك في "الجبهة الوطنية الاشتراكية" التي اقامت مهرجان المعارضة في بيت الدين عام 1952 حيث تحدث تويني كقومي. وبعد ذلك اطيح بشارة الخوري.
آنذاك كان الحزب قوياً جداً في عاليه والشوف، ونال تويني كثيراً من الأصوات. الثقل الاساسي للحزب كان بين الدروز، يليهم الارثوذكس، ثم الموارنة. وبين الدروز قوي الحزب في العائلات التي كانت مصنّفة تقليدياً عائلات يزبكية، من دون ان يلغي هذا وجود نسبة من القوميين لا بأس بها في الأسر المعتبرة جنبلاطية.
في الاربعينات كان الحزب يملك اقوى قاعدة حزبية في مدينة عاليه ومنطقتها، وفي بعقلين بالشوف. وكان من اوائل القوميين فؤاد ابو عجرم وحسن الطويل وكامل ابو كامل والثلاثة من بعقلين. في الوسط الماروني برز من القوميين المحامي سليم حتّي من شملان، وقد ترشح عن المقعد الماروني في عاليه في الخمسينات. كما برز من الارثوذكس الدكتور جورج صليبي وترشح عن المقعد الارثوذكسي في القضاء نفسه، فنالا كمرشحين منفردين باسم الحزب آلاف الاصوات. اللوائح ما كانت تصطحب قومياً اما لأن الحزب محظور، او لأن العلاقة به تسيء الى علاقة اللائحة بالسلطة، فضلاً عن الكلفة المالية الباهظة المطلوبة. لكن في 1960 خاض انعام رعد المعركة عن المقعد الكاثوليكي في الشوف على لائحة كميل شمعون ونال 15 الف صوت.
جورج ناصيف: المصيطبة/
الروم الأرثوذكس
ترعرعت في بيئة أرثوذكسية في المصيطبة. اجتماعيا هي بيئة غنى أعقبه فقر في الخمسينات، وامتلكنا عقارات في بيروت وسوق الغرب. سوق الغرب ظلت مصيفا رسميا لمطرانية الروم الارثوذكس حتى السبعينات. فالطابع القروي الذي حافظت عليه بدا مُطمْئناً للأرثوذكس المحافظين بالقياس الى بلدات شبه كوزموبوليتية كبحمدون التي أخافتهم. انها مصيف البيوتات الموسرة. اما الكورة، فبرغم انها مركز التجمع الارثوذكسي الاكبر، بدت دوماً بعيدة.
ارثوذكس المصيطبة هم، عموما، ملاكو عقارات وسطى وكبرى. قديما كانوا يملكون قسما كبيرا من الاشرفية التي كانت منتجعهم الجبلي فيما المصيطبة منتجعهم البحري، وعلى وعيي لم يكن العمران الكبير قد دخل منطقتنا. وروم المصيطبة والمزرعة احتكروا معامل البلاط في بيروت: آل يزبك وبطرس وجنحو والشامات ومالك والحداد وشحادة وناصيف وابو شهلا وغيرهم، كذلك هناك من عائلاتهم القديمة آل نجم. والكثير من عائلات المصيطبة أصله من جبل حوران، وهناك عائلات اصلها من الكورة كجحا. اما تملّك المصيطبيين العقارات فبدأ مطالع القرن، والعائلات المذكورة موسرة عموماً، من دون ان نستبعد، بالطبع، وجود عائلات ارثوذكسية فقيرة.
آل جنحو من اعرق عائلاتهم، يتفرّع عنهم آل بطرس الذين يتفرّع عنهم، بدورهم، آل ناصيف. وآل شحادة من اوائل الاطباء في المنطقة، كانوا يتوارثون مهنة الطب. أما آل مالك فالمحاماة. وعبر المحاماة تم تجديد الثراء الناجم عن معامل البلاط، وعن طريق التجارة الصغيرة والمهن الحرة والوظيفة اضاف الآخرون مصادر رزق اخرى. وكان شحادة ودعيبس وسلمون اطباء باسمهم سُمّيت امكنة وطلعات ومحلات في المصيطبة.
في 1958 سمي الشطر الداخلي، الميسور عموماً، "المصيطبة المسيحية"، وكان هذا اول تمييز في المنطقة وسكانها. كانت نشأة مصيطبتين وتقاتلهما نكسة للتعايش، وتولى القبضايات الأمر ومنهم حنا يزبك ومتري العقدة وحنا الكنبريكي، ومن المصيطبة المسلمة الفيومي المقرّب من صائب سلام. وكان مقهى المصيطبة الحدود بين المصيطبتين: الى الجنوب منه مقهى مسلم قريب من منزل صائب سلام، والى شماله في عمق المصيطبة المسيحية مقهى يزبك. وكان روم المصيطبة يشعرون تقليدياً بالاستعلاء على روم الاشرفية، رغم اقامة العائلات الثرية في الاخيرة. لم يوجد اي انشداد لدى المصيطباويين للاشرفية، بينما بقي راس بيروت موطن عائلتي ربيز وبخعازي الارثوذكسيتين. روم راس بيروت هم الحالة الوسطى بين روم المصيطبة وروم الاشرفية: أرقى اقتصادياً واجتماعياً من الأولين وأدنى من الأخيرين. ولم يكن للراس بيروتيين كبير تماسّ مع المصيطبة. انهم الجزء الحديث، شبه الأميركي، وهناك اقرار داخلي لديهم، لا سيما لدى آل ربيز، بأنهم الأرقى: "الأغنياء" و"المهفهفون". فهم لم يُعرفوا بأي طموح سياسي، ربما بسبب اشباع مالي وتجاري ووفرة في المهن الحرة: أطباء ومهندسين.
منطقة المزرعة كانت عائلة المجدلاني اقدم أسرها وأعرقها، وهي كبيرة جدا ولها فروع. زعيمها نسيم مجدلاني هو المتعاون تقليديا مع المسلمين: مع صائب سلام وكمال جنبلاط، والمعارض لكميل شمعون الذي حُسب على الجبهة الناصرية، وهذا من دون ان يقطع مع جمهوره المحلي. كان آخذاً بايديولوجيا التعايش. ربما لم يكن لامعاً جداً، وهو لم يكن ثرياً، وربما لهذا عبّر عن المتوسّط الارثوذكسي. فهو ليس في غنى روجيه عاصي، ولا في تألّق حبيب ابو شهلا وغسان تويني. وهو، في الحساب الاخير، تقليدي. لقد اعتُبر، في السياسة والمواقف، امتداداً لأبو شهلا، علماً ان هذا الامتداد عنى انتقال الزعامة من المصيطبة الى المزرعة. والحال انه لا يوجد انشطار مصيطباوي مزرعاني، رغم استعلاء الاول على الثاني لأن المزرعاني اقل "نقاء" ارثوذكسيا نظراً لتداخل سكنه مع المسلمين. ونسيم كان الرجل الثاني في حزب الغساسنة الذي أسسه جبران تويني حينما راحت الطوائف تنشىء احزابها، الا ان هذا الحزب لم تُكتب له الحياة. اما الذين تعاقبوا على مخاصمة مجدلاني فكانوا سعيد فريحة وهو ليس من بيروت، وغسان تويني وهو اصلا من الاشرفية، ثم انه الكاريزمي الذي لا يشبه متطلبات الوسط المحافظ، واخيرا روجيه عاصي الذي، فضلا عن غناه، ينتمي الى عائلة صغيرة جداً. فنسيم هو الوسط الثابت. لذا فخصمه اما ان يكون اقرب منه الى الموارنة، او اقرب الى المسلمين، كما كانت حال نجاح واكيم في 1972.
وقرب نسيم من صائب قوّى الاثنين عند المصيطباوي العادي. فبرغم اشكال 1958 فان الاخير يحب سلام بنتيجة الانتماء المشترك الى "المحلّة" وإلفتها. هكذا كان الارثوذكس دائمي التصويت لصائب. عبدالله اليافي، مثلا، لم يعن لهم شيئاً. وارثوذكس المصيطبة كانوا، ايضاً، يحبون شمعون الا انهم يكرهون الكتائب، وهذا مشترك بينهم وبين سريان المصيطبة الارثوذكس ممن يقيمون بين مقهى يزبك ونزلة جنبلاط. لقد ربطت الارثوذكس بالسريان علاقة غيتوية: نظرة تعال تجاه السريان، والبعض اعتبرهم "أرمن المنطقة". لكنْ في 1958، و"لرد الخطر المسلم" اندمجت الجماعتان وتقاربتا. وعموماً ارتاحت نزعة المحافظة المصيطباوية الى شمعون الذي هو، برأيهم، تعايشي في زمن التعايش ومقاتل ابان القتال. ومن حبّهم لشمعون احبّوا سامي الصلح تبعاً لعلاقته به، الا ان الصلح كان يترشح عن بيروت الثانية وهم يصوّتون في بيروت الثالثة.
والموارنة موجودون في المصيطبة اكثر من الكاثوليك، لكن رعيتهم صغيرة وهامشية تعيش في منطقة صافية ارثوذكسياً، هي تحديداً منطقة دعيبس الواقعة على زاوية تقاطع برج ابو حيدر والمزرعة لجهة المصيطبة. وكان من امتدادات السياسة لدى وجهاء المصيطبة اهتمامهم بعضوية المجلس الملّي، وبين اعضائه الآن الياس بطرس وغابي ناصيف وايلي جبران بطرس واندريه جحا. وثمة تباهٍ ثابت بالرياضيين، اذ ابرزُ الرياضيين اللبنانيين كانوا من المصيطبة والمزرعة: لبيب بطرس بطل لبنان في السباحة، واخوه عادل، وناصيف مجدلاني، وسبع فلاح، وميشال فواز وجورج حداد. هذا الوسط أسس ملعب حبيب ابو شهلا ونادي الشبيبة - المزرعة، والجمهور اساساً ارثوذكسي. وربما كان هذا الاهتمام بالرياضة تعبيراً عن وسطية مستنكفة عن السياسة. فلعب الورق وتدخين النرجيلة معروفان كثيراً في المصيطبة بينما لا تحتل قراءة الصحف اي موقع ملحوظ.
وتعليمياً تأسست لروم المنطقة، في 1952، مدرسة مار الياس بطينا، وفي الوقت نفسه اقيمت كلية البشارة الارثوذكسية. نشأة مار الياس انهت التعلّم في مدارس السريان، وقبل هذه المدرسة كان بعض الارثوذكس المحظوظين يسجّلون ابناءهم في "الليسيه" حيث يكثر السنّة والأرثوذكس من ابناء الشرائح العليا في الطبقة الوسطى، كما كان ثمة من يتوجه الى مدرسة "البطريركية" المارونية.
وفي الخمسينات نما الحزب السوري القومي نمواً ملحوظاً في المصيطبة، وكان ذاك بعد رحيل ابو شهلا والشعور بالحرمان من التمثيل السياسي. هذا النمو لم يحصل في المزرعة التي هي على تماس اكبر مع المسلمين وليس فيها سريان. ومنذ 1957 ولبيب ناصيف هو مدير مديرية المصيطبة في الحزب الذي كانت اكثرية اعضائه مسيحية، وقد انضم اليهم بضعة مسلمين هم على الارجح ممن تعاطفوا مع سياسات سامي الصلح. في هذا لعب الكاهن برباري الذي عرّف انطون سعادة قبيل اعدامه، وبرباري كاهن المصيطبة، دوراً كبيراً. وهذا ما فاقم الطابع الارثوذكسي والمحلي للحزب، خصوصاً مع الالتقاء على موقف واحد هو تأييد شمعون في 1958. والواقع ان المصيطباوي العادي احب الحزب القومي وكان حبه شمعون من اسباب ذلك. وقد تركّز النمو القومي في بيئة طبقية وسطى الى دنيا، كما ارتبط اساساً بعائلة برباري، وهي من اصل بحمدوني، وبالجب الفقير من آل ناصيف، وبموظفين صغار في عائلات اخرى، الا انه لم يخترق الأسر الأساسية كجنحو وحداد وبطرس. وكان المطران ايليا صليبي يعطف على القوميين لأنه كان معادياً شرساً للعروبة والاسلام، يحب شمعون والموارنة. وهذا المطران الذي عُرف بشدة محافظته ومَلَكيته ظل حتى وفاته أواخر الستينات، معبود الأرثوذكس. على أنه مع المحاولة الانقلابية انهار وجود الحزب. بعد ذاك صار القوميون في المصيطبة من الوافدين اليها لا من ابنائها. ومع الحرب بات مسؤولهم ايلي معلوف، وهو ليس من المصيطبة كما يقيم في حي طرفي في الوطى قريباً من التجمع السكني الدرزي. كذلك غدا من وجوههم عبدالمسيح طرزي وهو سرياني.
الشيوعيون لا وجود لهم على ما أذكر. ربما وجدت مجموعة ضئيلة جداً من السريان وعائلة او اثنتان ارثوذكسيتان من غير الأسر الكبيرة. مسؤولهم من آل بلاكين وهي عائلة صغرى. وفي المزرعة هناك محام شيوعي هو كميل مجدلاني لكن حالته في عائلته فردية كحالة المحامي البعثي جبران مجدلاني في وقت سابق. لكن عددا من الشيوعيين برزوا في المزرعة في اسرة الحداد التي تملك معمل بلاط: في الثلاثينات سافر صاحبه الى الاتحاد السوفياتي ومنه عاد شيوعياً. والواقع ان التقليد الروسي - الارثوذكسي كان دائماً قوياً عندنا الا أنه لم يخدم الشيوعيين ولم يعززهم الا بآل الحداد المذكورين. فمنذ وقت مبكر انشئت للأرثوذكس "مدرسة الماما" الروسية في ما بات يُعرف بشارع الماما، او نزلة كلية الآداب. والماما لقب زوجة القيصر. والواضح ان ورثة التقليد الروسي حقدوا على الشيوعية لاطاحتها القيصرية اكثر بكثير مما تعاطفوا معها تبعاً لروسيتها. فالجاه والتيجان والأبّهة التي ارتبطت بكاتدرائية بيروت بسبب المطران صليبي، ما كان يمكنها اطلاقا ان تتوافق مع المسيحية الروسية في طور سفيتتها. على ان التقليد الذي كان اقوى واطول تأثيراً فهو اليوناني، وهذا ما عاد جزئياً الى الترتيل اليوناني للمطران صليبي. ذاك ان المصيطبة وفّرت للملك اليوناني بول حين زار لبنان اواخر الخمسينات، اهم استقبال.
وصبّت الهجرة الكردية والشيعية الى المصيطبة في الشق المسلم منها، اي باتجاه الدائرة الثانية. وكان اقرب نقاط المهاجرين الى الشق المسيحي حي اللجا، وهذا ما بدأ مبكراً في الستينات وأثار خوفاً لدى بعض المسيحيين. ولم تنشأ صداقات مع الشيعة، لكن الخوف ظل محدوداً ومحصوراً خصوصاً أنه لم يجد تمثيله السياسي. وكان من مصادر الاطمئنان النسبي أن صائب يضبط المنطقة. السينما عبّرت عن بعض واقع الحال هذا: سينما ياسمين التي كانت نشأت لتكون لأبناء المصيطبة المتوسطي الحال ممن لا يذهبون الى الحمرا ولا الى السينمات "المسلمة" في الاحياء ذات اللون الديني الواحد، هذه السينما اقيمت على فم حي اللجا. انتهت هذه السينما سينما تعايش اذ يؤمها الجميع.
"حركة الشبيبة الأرثوذكسية" أنشئت قبل الاستقلال، في 16 آذار مارس 1942. المبادىء التأسيسية الستة بعيدة عن الاساسيات السياسية، ولو كان احدها يشير الى فصل الدين عن الدولة. في نشأتها أنها حركة لا سياسية، وهي حقاً كذلك، بمعنى ان هدفها الفعلي تحديث الوضع الملي للأرثوذكس، وهذا ما جعلها، في وقت واحد، على يسار المؤسسة الكنسية الرسمية وعلى يمينها: على يسارها بمعنى انطوائها على شيء من البروتستانتية من حيث العودة الى النص الانجيلي وفردانية الانتماء الى الكنيسة بلا وسيط مؤسسي وبلا أبّهة المطران صليبي. وعلى يمينها بمعنى أنها في مواقفها على يمين كتلة "المطارنة السوفيات" الأربعة. ذاك انه في الخمسينات والستينات وُجدت هذه الكتلة التي قادها المطران سماحة، وبعض افرادها كان على صلة ب"عصبة مكافحة الفاشية" وبمجلة "الثقافة الوطنية". كان الثلاثة الآخرون المطارنة بولس الخوري وأبيفانيوس زائد وشدراوي الذي لم يكن قد اصبح مطراناً بعد. لم يكونوا تحديثيين على مستوى الكنيسة، بل مطارنة ريفيين في ابرشيات نائية وفقيرة. الدكتور جورج حنا، العلماني، كان يعكس الأجواء التي يرتاح هؤلاء المطارنة اليها. معظمهم مُسنّون ولديهم حنين الى روسيا القيصرية نقلوه في ما بعد الى روسيا السوفياتية.
الحركة، في المقابل، اهتمت بمأسسة الطائفة، وبوعي الذات الارثوذكسية التي صادرتها المارونية. خصمها الرئيسي كان المطران صليبي والموارنة. وكان من محاور نقاشاتها الانشقاق اللاهوتي والكنسي بين الروم والموارنة. فالكاثوليكية والمارونية، في رأيها، تلغيان في تدريسهما تدريس الثقافة الدينية الارثوذكسية، كما لا يعترف الموارنة بالطقس الارثوذكسي. وبدل ما اعتُبر قوقعة لبنانية لدى الموارنة، وهذا على مستوى ثقافي غير مسيّس بالضرورة، كانت "الأمة الأنطاكية" في الوعي الارثوذكسي تعادل تقريباً "الأمة السورية" التي بشّر بها أنطون سعادة.
وكان أبرز مؤسسيها المطران اللاحق جورج خضر الذي انتخب منذ الاجتماع التأسيسي أميناً عاماً، ويومها كان لا يزال مدنياً انجز دراسة الحقوق او كان ينهيها، والمحامي البير لحّام وشقيقه الطبيب ادوار، وطبيب الصدر ميشال خوري، وجبرائيل سعادة وهو عالم آثار من اللاذقية، والمثقف قسطنطين بندلي، ومتري قصعة وجبرائيل دبس ولطف الله ملكي ونقولا عبدوش واندريه عبدوش وايلي برباري وجود خوري وايلي صليبي وعوني تامر وفرديناند داغر وجون عوض. الجميع كانوا يومها لا يزالون طلابااعمارهم تتراوح بين 17 سنة و19، اكثرهم يدرس في الجامعة اليسوعية ومعظمهم يدرس الفلسفة. خضر وبندلي كانا طرابلسيين، وصليبي من سوق الغرب، وقصعة وميشال خوري بيروتيان، وجبرائيل سعادة من اللاذقية. وبعد فترة قصيرة انضم اليهم اغناطيوس هزيم، من سورية، وكان يومها متخرجاً من السوربون بالعلوم السياسية.
وخضر من بيئة غير بعيدة تاريخياً عن الحزب القومي، شديد التحفظ فكريا على المسيحية الغربية، وهو ربما كان الوحيد بين المؤسسين الذي صدر عن منبت فقير. فمؤسسو الحركة عموماً من عائلات وسطى وعليا، لكن عائلات بيروت البورجوازية والاريستوقراطية لم تنتسب نظراً لولائها المعروف للمطران صليبي. عائلة تويني ايضاً لم تُقبل على الحركة، لكن غسان تويني شكّل قطباً في نظر خضر والبير لحام، سيما وان اسمه بدا في الستينات خصوصاً، مرتبطاً بالتحديث والعصرنة، من دون ان يكون لكل ذلك اي امتداد فعلي في جسم الحركة. روم طرابلس وروم سورية الذين في الحركة كانوا يكرهون غسان تويني. اما الاقطاب الارثوذكس الآخرون فلم ينشأ بينهم وبين الحركة اي علاقة.
في البداية الاولى بدأ التأسيس على ايدي لبنانيين، على ان يؤسس السوريون منهم حركة مماثلة في سورية، غير ان الحركتين سريعاً ما اندمجتا. وكان اول مركز يتأسس، بعد مركز بيروت، مركز اللاذقية. وفي نهاية حزيران يونيو كان قد غدا العدد 50 عضواً في لبنان، وفي آخر 1942 صار هناك فرقتان في كليتي الحقوق والطب باليسوعية، ففرقة في كلية الطب. ثم نشأت فرقة مار نقولا في الأشرفية، فثلاث فرق لطلاب ثانويين في مدارس الجمهور اليسوعية والفرير والثلاثة اقمار، وفرقتان للبنات في زهرة الاحسان.
عند النشأة كان مأخذ الحركة على المؤسسة الأرثوذكسية يونانيتها اللاهوتية وتقليدياتها وغناها وشخص "المطران - القيصر" صليبي، واسمت الحركة نفسها "حركة نهضة" داخل الكنيسة. ومنذ البداية انطوت على مُكوّن مشرقي يهتم بالفقراء في مواجهة البيروتية الأرثوذكسية المترفة. كان الهمّ الساحق للبدايات انشاء جوقة وانشاء رهبنة واقامة سلك كهنة جديد، ولهذا اندفع الكثيرون من المؤسسين الى الانخراط في السلك.
في الخمسينات جددت الحركة بيعتها لخضر، وذلك بعد عودته من باريس التي هاجر اليها بعد التأسيس بسنتين او ثلاث، وبقي فيها اربع سنوات. هزيم وخضر اللذان درسا في باريس تأثرا بأجواء الروس المؤمنين ممن هاجروا الى فرنسا، وهذا ما جعلهما على شيء من معاداة الشيوعية. فقد عاش في باريس يومذاك بيار ستروف ابن عائلة دينية من الروس البيض هاجرت في 1917 وصار هو لاهوتياً منظّراً. كما كانت هناك مجلتا "كونتاكت" و"ميساجي أورثوذكس" اللتان كان الروس البيض يصدرونهما من باريس، وكانت كتابات برديائيف متداولة في ذاك الوسط. واهتمت الحركة بالمؤسسات وبالادارة العصرية للكنيسة وانفتاحها على الشبيبة، ومن ثم اعطاء ذلك بعداً اجتماعياً. وككل عمل نهضوي يبحث عن جذور له، ذهبت الحركة الى الآباء الكابادوكيين ممن عاشوا بين القرنين الثالث والخامس، كيوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير، فهؤلاء عاشوا ببساطة وبلا سلطة او بهرجة.
في 1945 كانت الحركة اصدرت مجلة "النور" كنشرة تثقيفية بالفرنسية، والحال ان هذه اللغة هي التي سادت، في السنوات الاولى، نشرات الحركة وخطاباتها ووثائقها، كما سادها بعد عن السياسة. في اواخر الخمسينات لم يرد في "النور" مطلق اشارة الى وجود حرب اهلية. في 1959، مثلاً، انعقد المؤتمر الطلابي الثالث للحركة في طرابلس لمناقشة "الحياة الروحية" والعفّة"، فضلا عن مسائل اجرائية داخلية. وفي العام نفسه كتب خضر في "النور" ان "الأرثوذكسية وطن فكري لنا" بما يغني عن اي مصدر ايديولوجي آخر. السياسة لم تجىء الحركة الا بعد 1967. حصل تحول في اوساط الطلاب الحركيين وكان ابرزهم ثلاثة: طارق متري من عكار، كان يدرس في فرير طرابلس كما كان قريبا من اجواء البعث، والياس خوري من الاشرفية، وكان قريبا من "فتح" يدرس في "الراعي الصالح"، وأنا الذي كنت قريباً من القوميين السوريين أدرس في كلية البشارة الارثوذكسية، وكان احد الاساتذة البارزين فيها القومي هنري حاماتي الذي كان هزيم سلّمه ندوة المدرسة. وبصورة عامة يمكن القول اننا كنا ننتمي الى فئة اجتماعية ادنى من فئة المؤسسين. ارهاصات هذا التحول الى السياسة كانت بدأت في 1966 حين اقيم مؤتمر طلابي في بكفتين بالكورة، فكان اول مؤتمر يطرح مسألة الالتزام، وكان عنوانه "التزام شؤون الأرض". كنا نقول بضرورة التعامل مع الفكر الاجتماعي لأن المسيح للفقراء. كنا نطالب بمواقف وطنية ضد اسرائيل. كنا نطالب، على فوارق تفصيلية بيننا، بمواقف الى جانب الفقراء بشكل محدد، وبمواقف من فييتنام وكوبا وغيرهما. وكنا نقول ان هذا يستدعي عصرنة الانجيل للإطلال على العصر ومسائله. كنا نرفض باستمرار فكرة الحياد او اعتبار الكنيسة الارثوذكسية واحدةً لا تقبل الانقسام. ومنذ البداية كان جورج خضر وكوستي بندلي يدعمان هذا الخط الجديد ويوفّران له تغطية دينية، بينما يعارضه بيارتة الحركة كالمهندس ريمون رزق، والبير لحّام الذي تخرّج لاحقاً من مكتبه للمحاماة أمين وبشير الجميّل، والملاك سيمون خوري، وغابي حبيب، البيروتي الذي كان يعمل في اطار مسكوني عالمي.
والواقع ان طرابلس كانت تجديدية على عكس بيروت، ووصل تجديديو طرابلس الى مواقع التأثير فيها. وبينما بلغ اجمالي عددنا حوالي 80 طالباً، اتجه كبار السن وذوو الاوضاع الاجتماعية الجيدة وابناء العائلات وجهة المحافظة.
والى نكسة 1967 أثّرت التيارات الأرثوذكسية المساواتية في العالم، وايضاً التيارات المشابهة عند الكاثوليك ككاميليو توريز. هنا ارتبطت اصلاحيتها بالنزعات الاصلاحية في باقي كنائس العالم، وعند ذاك تقلّصت أرثوذكسيتها الصافية، وكان اللاهوت الارثوذكسي مفتوحاً، بالفعل، لتلقّي التأثيرات.
الحلقة الخامسة: الخميس المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.