من فوق التل تفرج نيرون على ألسنة اللهب تلتهم روما وهو يعزف على قيثارته، وغدا الحريق بداية النهاية للامبراطورية التي استمر انهيارها أربعة قرون. وبوريس يلتسن لا يلامس أوتار البالالايكا، بل انه يرغي ويزبد متوعداً الارهابيين الذين احرقوا موسكو بالويل والثبور. الا ان النتيجة متماثلة في الحالتين، وان كان انهيار الامبراطورية السوفياتية استغرق وقتاً اقصر وساهم فيه رئيس روسيا التي أمست اليوم بلداً خائر القوى يحترق على مرأى من العالم. وقبل ثماني سنوات ترك يلتسن، إثر تصديه للمحاولة الانقلابية، دمعة تسيل على خده وهو يقول لأقارب ثلاثة شبان قتلوا إبان الاحداث: "سامحوني لأنني لم أتمكن من حماية أولادكم". إلا ان الرئيس الروسي لم يطلب الصفح من ملايين الروس الذين يتضورون جوعاً بسبب سياسته الاقتصادية، ولم يسأل الغفران من ذوي 100 ألف شيشاني وروسي قضوا في حرب ما برح لهيبها يأتي على الأخضر واليابس. منفذو الاعمال الإرهابية في القوقاز وموسكو قد يكونون شيشانيين أو داغستانيين أو سلافيين، الا ان الانفجارات ذاتها هي من "ثمار" سياسة تفتقر الى الحكمة وبعد النظر، وحكم لا يهمه سوى الحفاظ على العرش وما يوفره من امتيازات وأموال شرعية أو غير شرعية. والأنكى ان هناك من يريد استغلال الاشتباكات القوقازية والتفجيرات في العاصمة للتخلص من الهموم والخصوم. فدوي الانفجارات قد يصرف الانظار عن الفضائح المالية ويعطل التحقيق فيها. والهلع الذي استبد بالناس يهيئ الاجواء لإعلان حال الطوارئ والهروب من انتخابات محسومة النتائج لغير صالح الكرملين. إلا ان هذه الخطوة قد تصبح مسماراً أخيراً في نعش الدولة الروسية، وبدلاً من إحلال النظام ستخلق حالاً من الفوضى والعسف. واستبدال السلطة المدنية بحكم عسكري لا يعني فقط إلغاء الديموقراطية، بل سيمعن في شل الاقتصاد الممزق. والى ذلك فإن الحكام الذين لعبوا الدور الأبرز في تفكيك القوات المسلحة لن يجدوا لهم داخلها حلفاء كثيرين، باستثناء بعض الرؤوس المنتفعة من الوضع الراهن. واجهزة الأمن والداخلية والنيابة العامة غدت منخورة أو واهنة اذ استبعد كل محترف تجرأ على فتح ملفات الفساد والرشوة، فيما اسندت المناصب الى من يدين بالولاء المطلق ويعرف من اشارة بسيطة متى ينبغي ان يضع قفلاً على عقله وفمه. ثمة مجرمون قد تكشف اسماؤهم وضعوا عبوات ناسفة لهدم عمارات يسكنها أبرياء، إلا ان الألغام الأخطر وضعها ساسة هدموا الدولة ومؤسساتها. ولن يأسف كثيرون لاحتضار ورحيل هؤلاء، ولكن ثمة مخاوف من ان يحاول أحد الاقتداء بشمشون الذي هدم المعبد على رأسه ورؤوس أعدائه.