مذكرة تفاهم بين إمارة القصيم ومحمية تركي بن عبدالله    ارتفاع الصادرات السعودية غير البترولية 22.8 %    برعاية ولي العهد.. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي    بركان دوكونو في إندونيسيا يقذف عمود رماد يصل إلى 3000 متر    تهديدات قانونية تلاحق نتنياهو.. ومحاكمة في قضية الرشوة    لبنان: اشتداد قصف الجنوب.. وتسارع العملية البرية في الخيام    الاتحاد يخطف صدارة «روشن»    دربي حائل يسرق الأضواء.. والفيصلي يقابل الصفا    انتفاضة جديدة في النصر    استعراض مسببات حوادث المدينة المنورة    «التراث» تفتتح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    جامعة الملك عبدالعزيز تحقق المركز ال32 عالميًا    «الأرصاد» ل«عكاظ»: أمطار غزيرة إلى متوسطة على مناطق عدة    لندن تتصدر حوادث سرقات الهواتف المحمولة عالمياً    16.8 % ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية في الربع الثالث    «العقاري»: إيداع 1.19 مليار ريال لمستفيدي «سكني» في نوفمبر    «التعليم»: السماح بنقل معلمي العقود المكانية داخل نطاق الإدارات    صفعة لتاريخ عمرو دياب.. معجب في مواجهة الهضبة «من يكسب» ؟    «الإحصاء» قرعت جرس الإنذار: 40 % ارتفاع معدلات السمنة.. و«طبيب أسرة» يحذر    5 فوائد رائعة لشاي الماتشا    «كل البيعة خربانة»    مشاكل اللاعب السعودي!!    في الجولة الخامسة من دوري أبطال آسيا للنخبة.. الأهلي ضيفًا على العين.. والنصر على الغرافة    في الجولة 11 من دوري يلو.. ديربي ساخن في حائل.. والنجمة يواجه الحزم    نهاية الطفرة الصينية !    السجل العقاري: بدء تسجيل 227,778 قطعة في الشرقية    السودان.. في زمن النسيان    لبنان.. بين فيليب حبيب وهوكشتاين !    الدفاع المدني يحذر من الاقتراب من تجمعات السيول وعبور الأودية    اقتراحات لمرور جدة حول حالات الازدحام الخانقة    أمير نجران: القيادة حريصة على الاهتمام بقطاع التعليم    أمر ملكي بتعيين 125 عضواً بمرتبة مُلازم بالنيابة العامة    مصر: انهيار صخري ينهي حياة 5 بمحافظة الوادي الجديد    «واتساب» يغير طريقة إظهار شريط التفاعلات    ترحيب عربي بقرار المحكمة الجنائية الصادر باعتقال نتنياهو    تحت رعاية سمو ولي العهد .. المملكة تستضيف مؤتمر الاستثمار العالمي.. تسخير التحول الرقمي والنمو المستدام بتوسيع فرص الاستثمار    أسبوع الحرف اليدوية    مايك تايسون، وشجاعة السعي وراء ما تؤمن بأنه صحيح    ال«ثريد» من جديد    الأهل والأقارب أولاً    اطلعوا على مراحل طباعة المصحف الشريف.. ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة يزورون المواقع التاريخية    أمير المنطقة الشرقية يرعى ملتقى "الممارسات الوقفية 2024"    محافظ جدة يطلع على خطط خدمة الاستثمار التعديني    الإنجاز الأهم وزهو التكريم    انطلق بلا قيود    تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين ونيابة عنه.. أمير الرياض يفتتح فعاليات المؤتمر الدولي للتوائم الملتصقة    مسؤولة سويدية تخاف من الموز    السلفية والسلفية المعاصرة    دمتم مترابطين مثل الجسد الواحد    الأمين العام لاتحاد اللجان الأولمبية يشيد بجهود لجنة الإعلام    شفاعة ⁧‫أمير الحدود الشمالية‬⁩ تُثمر عن عتق رقبة مواطن من القصاص    أمير الرياض يكلف الغملاس محافظا للمزاحمية    اكثر من مائة رياضيا يتنافسون في بطولة بادل بجازان    وزير الثقافة: القيادة تدعم تنمية القدرات البشرية بالمجالات كافة    محمية الأمير محمد بن سلمان تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش    "الحياة الفطرية" تطلق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية "السيرة الناصرية" على مثال المشاهد والشعائر والقصص 7 التردد بين علاج يقر الأمة على اكتئابها ... وطبابة تنكص بها إلى رحم فردوسي
نشر في الحياة يوم 07 - 08 - 1999

غداة نحو نصف قرن على ظهور جمال عبدالناصر، المصري، على مسرح الحوادث والأخبار العربية - جرى ابتداء التأريخ بالمشاركة في حرب فلسطين أو استدل بانقلاب 23 تموز يوليو 1952 أو بثورته - أوكل ناصريون، قوميون عروبيون ووحدويون، إلى واحد منهم، ومن صحابتهم و"حواريي" صاحبهم، هو السيد محمد حسنين هيكل، رواية "سيرة" جمال عبدالناصر، للمرة الألف.
واستعادة الراوي السيرةَ الناصرية، هي دعوة إلى التجديد، وليس إلى التكرار، من طريق التأويل. فالراوي، على ما نبه فالتر بنيامين، مستأمن على ذخيرة معنوية عظيمة ومتجددة، يعزوها بنيامين إلى مباشرة المجتمعات المنصرمة حوادث الحياة على مثال الصنيع الحرفي، وإنتاج "الآية" الباقية على مر الزمان" وهو يحملها، من وجه آخر وملازمٍ الوجه الأول، على القص المستظهر بمهابة الموت. ...
واستخرج السيد سليم الحص - رئيس الحكومة اللبنانية، و"الناصري الأمين"، وموشِّح السيد هيكل وشاح جائزة جمال عبدالناصر الأولى في 26 تموز، ببيروت، في ذكرى تأميم قناة السويس الثالثة والثلاثين، وعريف مهرجان الجائزة - استخرج هذا المعنى، المعنى الحرفي للسيرة الناصرية، حين ذهب إلى أن "من يفقد ذاكرته في منتصف رحلة لن يكون قادراً على تكميلها". فالسيد سليم الحص، شأن السيد هيكل نفسه ومركز دراسات الوحدة العربية، صاحب الجائزة وراعي لجنتها، وشأن المطنبين في مديح "الذاكرة" "العربية" على وجه التخصيص، إنما يقيس الصنيع التاريخي على مثال الرحلة التامة من موضع إلى موضع.
وجلي أن القياس هذا قياس حرفي مثاله الصنعة أو "الآية" المصنوعة والتامة، على معنيي التمام: الصنع البديع والصنع المنتهي إلى غايته. ولا تنفك استعارات رئيس الحكومة اللبنانية، "الناصري"، من وطأة الصورة التاريخية الحرفية، ولا من مجافاة سائق التأريخ، أو "التسجيل التاريخي"، على ما يقول وينسب الفعل والعمل إلى السيد هيكل. فليس التأريخ، على خلاف السيرة والحكاية والقَصَص، سرداً لحوادث "رحلة" من مبتدَإها إلى حط رحالها. فمثل هذه الحلقات، أو الحقبات، التاريخية، القائمة في نفسها وبنفسها، صارت متعذرة بعد أن "جمح الزمان" المتنبي وامتنع "اللذيذ الخالص"، امتناع "الشهادة الصادقة" التي يحسب السيد هيكل في محاضرة جائزته أنها "لا تستطيع ان تكذب لانها تحقق دورها في حوار مجتمعاتها في حال الصدق وحدها".
فمثل هذا "الصدق"، وخلافه ليس الكذب، يفترض عالماً "مغلقاً"، يستوفي التعريفُ والحد المحكم حوادثه ودلالة هذه الحوادث. فإذا لم يبق العالم على هذا النحو من التناهي والإحكام والإستيفاء، بطلت السيرة، وبطلت معها الحكايات والقَصَص والحِكَم وذخيرة المعنى أو المعاني القديمة والمتجددة. وهذا ما يعلمه الروائي، وهو غير الحكواتي، وينبغي ان يعلمه الصحافي، وريثُ الروائي، وصاحبُ أنقاض الأخبار المتروكة نهباً للوصف وجهاته و"زواياه" وتعسفه وتأويله.
وما يحاوله السيد محمد حسنين هيكل، جاهداً ومجاهداً، هو رواية السيرة الناصرية، على مثال سيرة الظاهر بيبَرْس، من غير مجافاة ما يعرفه من أدب الصحافة اليومية والخبرية، ولا تنكب ما خلفته السينما، وخلفه التلفزيون، من آثار في مباني السرد وتركيبه وتوليفه "المونتاج". فإذا غلب "الطبع" الناصري والقصصي "التطبع" الصحافي والسينمائي المحدث، كانت غلبته حقاً من حقوق حقبة وثقافة ودورٍ لم تطوها مجتمعاتنا بعد، ولا تلوح في الأفق نذر طيها أو بشائره، على خلاف زعم السيد هيكل وعلى الضد من خشيته وخشية أصحابه وأصحاب هواه.
فهو يقص على مسمع المحتفلين معه ب"العرس القومي" ... "الأزمات الأكثر إثارة" من أجزاء القصص الناصري: "مشهد 26 يوليو 1956" اعلان تأميم قناة السويس، و"مشهد صباح 9 يونيو حزيران 1967" يوم عزم عبدالناصر على الإستقالة من رئاسة الدولة، و"اللقاء" بأنور السادات "نهار 5 سبتمبر 1973" يوم طلب خليفة عبدالناصر من صحافيه الموقوف عليه و"مؤسسته" على قول الحص، كتابة "أمر معركة" السادس من أكتوبر/ تشرين الثاني 1973.
ويختار صاحب السيرة الناصرية الرسمي والمحلَّف، على شاكلة اختصاص الراوي بسيرة بطل واحد، حوادث يسميها مشاهد على ما تسمى فصول السيرة النبوية أو السيرة الحسينية، ويستثني من الإسم "لقاء" السادات. والحوادث الثلاث وقائع حرب أو وقائع ملحمية. والهزائم الملحمية انتصارات مجلية، على ما يعرف سلوبودان ميلوشيفيتش - "بطل" صربيا و"عُقَد تاريخها" و"تعقيدات ها السياسية التي تجمعت كوماً في القرن العشرين" - وهو المبتدىء ملحمته القومية، ومشروعه القومي، بالاحتفال في ميدان الشحارير بكوسوفو بولييه بانقضاء ستة قرون في "يوليو" 1989 على هزيمة الصرب أمام العثمانيين.
فالسيرة الملحمية لا تقع، أو لا "تصدق"، إلا إذا أوقعها الراوي على حروب وملاحم. و"التأريخ"، على معنى الحكاية والقص، لا ينفك، وينبغي ألا ينفك، من تناول الوقائع العظيمة والمجللة بالغبار والنقع والدوي. فهذه وحدها لا يصح تناولها إلا وهي على الحال المضطربة والملتبسة التي يصنع منها الأبطال وقصصهم، وتستخلص منها الأمثال السائرة والِحكم البليغة والمستمرة. والحق ان السيد هيكل إذ يختار هذه الوقائع، الحربية والملحمية، دون غيرها من المشاهد الناصرية، لا يكتم حمله التاريخ، والتأريخ لحوادثه، على الأبطال، والأفراد الخارقين وتحتهم "أممهم"، من وجه، وعلى المعارك والحروب والجيوش والأفعال الديبلوماسية المدوية، من وجه آخر. ولا يطعن في التاريخ والتأريخ البطوليين والسلطانيين هذين، تنبه "الجيل الناصري" "جيل القدر"، على قول أحد مدّاحي السيد صدام حسين إلى "المضمون الإجتماعي لقضية الإستقلال الوطني" السيد سليم الحص. فالنسبة، أو الصفة، الإجتماعية، ومثلها الصفة الجماهيرية "جماهير الأمة" دوماً، ليستا إلا من تطريز الخطابة الناصرية وحواشي بديعها، وينبغي ألا تؤوَّلا على معنى فعل الجماعات، إلا إذا أُدخل هذا الفعل تحت إسم البطل وفي باب مشاهده.
وتضمن المشاهد اتصال المعنى، وثبات الأدوار على دلالاتها. ويريد الراوي الملحمي أن تتصل مشاهده بخيط واحد هو ما يسميه "الحرب من نوع جديد"، على "الأمة" الواحدة والمجتمعة، وعلى "إرادتها" الواحدة والمجتمعة. وهو يخلِّص مثالاً للمشهد الناصري يتيح لراوي السيرة التنقل بين الحوادث الملحمية من غير التعثر بواقعة شاردة أو خارجة على السياق وتأويله وتعليله. ويقوم المثال هذا على 1 "حياة الأمة"، ولحظاتها "الحرجة" على الأغلب والأرجح، وعلى 2 "رؤية واحدة" قد تجمع على "مجموعة رؤى" من غير أن تنفك واحدة، 3 و"رجل واحد" أو "جماعة من الرجال"، وعلى 4 استطاعة الرجل ذي الرؤية "أن يعبِّر ويقود الأمة من حيث هو يعبر" عن الأمة وعن "حياتها".
وهذه عناصر الحياة النفسية، أي حياة النفس الفردية والجمعية، في مرآة النفسيات علم النفس والإجتماعيات علم الإجتماع الحيوية البيولوجية والرومنطيقية التي كانت مداد فلسفة التاريخ القومية و"الثقافية" والعرقية في بعض القرن التاسع عشر الأوروبي وبعض القرن العشرين. ولعل هذا المذهب في الوصف "التاريخي"، وفي تناول الظاهرات السياسية والثقافية، على ما يُرى من بعد في معالجة السيد هيكل للحركة اليهودية وللدولة العبرية وإهماله الوجه السياسي والإجتماعي منهما، من أصلب الأفكار العربية مكسراً وأمنعها على التحليل والنقد والتجديد. فهي ثمرة تلاقح روافد ثلاثة: رافد الأحوال الإجتماعية العربية المقيمة على مبان أهلية، وعلى تقييد السياسة والمجتمع بقيود عصبية ضيقة وخانقة" ورافد مثال السيرة البطولية وجمعها القوم على الفتح والغلبة و"العلاقات الخارجية"، وسكوتها عن سائر وجوه الإجتماع الداخلية" وثالثها رافد المثال القومي والسلالي الأوروبي، على نحو ما صاغته حركات إيطالية وألمانية وسلافية في مجتمعات تأخرت نشأة الدولة الوطنية والديموقراطية فيها.
والمربح من هذا المذهب في الوصف والتعليل يكاد يكون غنياً عن التنبيه والملاحظة. فهو يُسكِت كل العوامل الداخلية في الحوادث التي ألمت ب"الامة"، الأسطورية والخرافية الوحدة، التي يؤرخ لها، أي تروى بعض "أيامها"، أو "أيام" بطلها وفتاها الأغر. فلا أثر في السيرة الناصرية، المقولة بالسيد هيكل، على ما كان ينقل بعض مترجمي التوراة والأناجيل، لاستعار حرب أهلية مصرية توسل بها عبدالناصر، وطاقم حكمه وسيطرته، إلى شد قبضته على الدولة وأجهزتها، وعلى المجتمع. وكان الضباط، حين استولوا على الحكم، شأن المصريين، شهود انقسام مصر الى حزبين أهليين مريضين: وفدي "مدني" وإخواني إسلامي. وربما كان السعي في الخروج من هذا الإنقسام بعض السبب في الإستيلاء على الحكم، وكان سبباً قوياً في إرادة الضباط تنصيب أنفسهم حَكماً يتعالى عن المتنازعين ومنازعتهم، وفي إرادتهم دولةً تلغي المتنازعين وتمحو منازعتهم.
وعلى خلاف زعم بعض المثقفين الناصريين، أو زعم بعض المثقفين الشيوعيين للناصرية، لم تفلح هذه في الجمع بين السلفية الإسلامية والتقدمية الليبرالية، ولا في سبك مركَّب متماسك منهما، لا فكراً ولا سياسةً. وسرعان ما أدت سياسة جمال عبدالناصر المتسلطة، وهي تدرجت من حظر العمل السياسي إلى الرقابة على الصحافة قبل الإستيلاء عليها والإنفراد بالإذاعة، إلى اشتداد الشقاق الأهلي واحتدامه، والى استعداء الحزب العلماني المحدث الحداثوي والحزب الإسلامي، معاً وجميعاً. ورد المستولي على العداء العام بتعبئة أجهزة الدولة وتسليطها على "المجتمع". ورد كذلك باتخاذ الأجهزة حزباً و"تنظيماً سرياً"، واصطناعها عصبية للدولة، وأطراً ترعى "جماهير" الفلاحين والموظفين والعمال والطلاب الذين استمالتهم إجراءات توزيع الأرض ودعم المواد الغذائية والتوظيف العريض والحرب الوطنية.
فعطلت هذه السياسة إرساء العلاقات بين المجتمع والدولة على موازين المنازعة والتمثيل والمحاسبة جزء منه والتحكيم. وترتبت على هذا التعطيل نتائج مدمرة. فمصر، مجتمعاً ودولة، هي مختبر تفاعل الحداثة والإسلام، على مختلف وجوههما ومن هذه الوجوه أن الحداثة تنطوي على نقل وتقليد، وينطوي الإسلام على حداثته ونازعه إلى "البدعة الحسنة". وحملت السياسة الناصرية - وتوسلها بالأجهزة، ونزعها الحياد والإلتزام بالقانون عن الدولة، وإحالتها السياسة إلى مزاج التطهير والتعبير - بعض تيارات الإسلام السياسي على تبديع الحداثة الركيكة جملة، سياسة وثقافة واجتماعاً واقتصاداً، والفتوى فيها بالجاهلية. فقسمت المجتمعات والدول العربية والإسلامية، وصبغت انقسامها بصبغة الحرب الأهلية بين "الخارج" و"الداخل"، وأورثتها شقاق الإسلاميين على محاكاة الحداثة، وسوغت العنف والقتل والإغتيال طريقة ونهجاً.
وحين سرت الناصرية في المجتمعات العربية كانت هديتها تصدير نهجها "الأهلي" إليها. وهي، أي الناصرية، لم تصنع الحروب الأهلية العربية، ولا سيما المشرقية منها، بديهة. لكنها لم تولِ أحوال المجتمعات التي نشدت استمالة جماهيرها، وحشدها، الإعتبار، ولا احتسبت أثر مثالها، المثال الناصري، فيها. فأسهمت، من حيث تدري، في اضطراب الدول والمجتمعات هذه على شفير الحرب الأهلية.
وكان حظ الأردن، وبعض فلسطين الملحقة به، وسورية، والعراق، ولبنان، واليمن، من الهاوية الأهلية، بين 1954 و1970، وفيراً وثقيلاً. وعمت الحرب، باردة خانقة أو حارة مدمرة، الدول العربية التي كان للسياسة الناصرية نفوذ قوي فيها. ولم تثمر هذه الحرب أضعف غاياتها، وهي زُعمت حرباً على التخلف والإقطاع والسيطرة الأجنبية، لم تثمر تحديثاً لا سياسياً ولا اقتصادياً انتاجياً ولا اجتماعياً. بل أدى نهجها إلى إفقار المنازعات السياسية والإجتماعية، وإلى اختصارها في التسابق على الإنفراد بالسلطة بعد الإستيلاء عليها.
فأورث النهج الناصري هذا سورية والعراق النظامين اللذين أورثهما منذ نيف وثلاثة عقود. وهما ما كانا ليقومان على هذه الشاكلة لولا نزيف المادة السياسية، والإفقار السياسي، اللذين أسهمت السياسة الناصرية بسهم كبير في انتهاجهما، والتوسل بهما، إلى إحكام سيطرتها. وكان اليمن حقل اختبار أسلحة كيميائية، وهو حقل الاختبار الأول في الشرق الأوسط. وينهض هذا قرينة على اشتطاط الناصرية في تناولها الخلافات والإنقسامات الداخلية. فعلى نحو ما عالجت هذه السياسة المشكلات المصرية بواسطة معسكرات الإعتقال الجماعية، وانتهاك حرمات المعتقلين وحقوقهم، والإلغاء السياسي، عالجت مشكلات "الدائرة العربية" بالنفخ في انقساماتها الأهلية، وبتوحيد منازعاتها الإجتماعية بمنازعاتها الأهلية وفيها.
فغلبت على المنازعة الناصرية - كان مسرحها داخلياً أي مصرياً أم كان عربياً أو دولياً، وكان موضوعها سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً - غلبت نعرة حادة هي أقرب إلى نعرة الثأر والإنتقام منها إلى داعي تحصيل الحق أو إلى حادي المعالجة والتدبير. ولا ترمي نعرة الثأر والإقتصاص إلى قتل العدو وحسب، بل تصبغ كل خلاف، أو خصومة، على اختلاف وجوه الخلاف والخصومة ومسارحهما، بصبغة العداوة الجامحة والقاتلة، و"الناصري" امرءاً أو فعلاً، على هذا، إنما هو ساعٍ دائم في دم عدو لا يحصى وجهه، ولا تحصى أقنعته، تحدو سعيه ضغينة لا ترتوي. فإذا هو، "الناصري"، حصّل حقّه، شأنه في شركة قناة السويس وقبلها في إجلاء القوات البريطانية عن القناة ومدنها، بدا له حقه المحصل والمستعاد ضئيلاً في القياس على ما فات من حقوق وحيوات وكرامات مهدورة ومضيَّعة.
ولعل حمل السياسة والتاريخ على استدراك لا ينتهي على جرح نازف أبداً هو ما يملي على السيد هيكل، اليوم، ملاحظاته على المسألة الفلسطينية وعلى معالجتها منذ عام 1973: فهو ينكر، على خلاف البدائه المرئية والماثلة، أن هذه المعالجة أرجعت سيناء كلها إلى السيادة المدنية والسياسية المصرية" وردت إلى الأردن وادي عربة" وهي قادرة، على الأرجح، على إعادة الأراضي المحتلة اللبنانية إلى الدولة اللبنانية، على نحو ما هي قادرة على إعادة هضبة الجولان إلى الولاية المدنية السورية، وعلى إرساء دولة فلسطينية منقوصة على غزة "المصرية" ومعظم الضفة الغربية "الأردنية". فالقول إن "السلام يتحول إلى عملية، وتتحوّل العملية إلى مسيرة..." هو من باب الإنكار الإنشائي، وسنده ومسوغ تلقيه بالقبول هما انتسابه إلى القياس على الحقوق والحيوات والكرامات المضيَّعة.
ويدل خطاب "حميم" الزعيم المصري الراحل ... على تجديد المقالة الناصرية من طريق خلطها في المقالة الفلسطينية. فالإطناب في تعظيم "الذاكرة"، والدعوة إلى الفيء إليها وإعمالها في انبعاث "الأمة"، هما من صور الخطابة الفلسطينية وحليتها وآلاتها. والخطابة الفلسطينية إنما تحاكي، وتؤوِّل تأويلاً واسعاً، بعض الخطابة اليهودية والصهيونية السياسية. وتطرح الخطابة الفلسطينية، وحالها هذه، مباني السياسة اليهودية واتساعها للتيارات الكثيرة والمختلفة، واحتكامها إلى الهيئات المنتخبة، ونزولها عند الحلول الجزئية. فلا تحفظ منها إلا الأهومة والأطياف، ولكنها تعول على جنى مرتبة رمزية ومعنوية عالية يحلها خازن الذاكرة، الداعية والمثقف والصوت المدوي والرسول الوديع بشعره الطويل إلى الينابيع، جميعاً...
ولا ينفك خلط السيرة هذا الوجه من الخطابة الفلسطينية، وهو على ما هو عليه من الدخالة والافتعال والمحاكاة، في الخطابة الناصرية، المصرية أولاً وربما أخيراً، غريباً وباعثاً على الوقوف. ولا تستقيم أضعف المقارنة بين شعب حضري، قد يكون أقدم جماعة سياسية إقليمية على وجه الأرض، حفظت أرضه معالم إقامته المديدة عليها وعمله المتجدد فيها، وبين شعب بادٍ وظاعن لم يألف الدولة والسلطان إلا أقل الإلفة، ولم يحل أرضاً إلا خفيفاً وضيفاً. فكيف يصح الجمع بين المصريين، وعلى قدر أقل بين الفلسطينيين، وبين الشتات اليهودي، و"ذاكرته"، ويُنسى أن الشتات هذا كان إلى يوم قريب، "تيهاً" و"نبذاً" و"تشرداً"، وكانت هذه الحال حكماً عادلاً ولعنة حقاً. ولماذا يتوسل إلى الفعل التاريخي ب"الذاكرة" والرواية، وبسَدَنة الإثنتين من المثقفين والمدونين ودراويش الزار، إذا لم تنفك "الأمة" أو الجماعات التي تتألف منها، من ملابسة أرضها وأقاليمها ومعالمها وهيئاتها الأهلية، ولم تخشَ يوماً إقامة شعائرها، ولا بعث تراثها، ولا تأويل هذا أو تلك على حسب ما ترتأي وترضى؟
فلا تعليل لسريان "العدوى" الفلسطينية هذه في السيرة الناصرية، على رغم الفرق الكبير بين الحالين، إلا استشعار رواة السيرة هشاشة حالهم، وحملهم "حال الأمة"، على ما يقول بعضهم متأمركاً، على حالهم. ولا تفعل العدوى الفلسطينية إلا تجديد الجرح النازف، الناصري، وبعث شعور "الناصري" المقيم بتقصيره في ثأره لما لحق به من مهانة أو معرة أصابت منه ذات النفس، على قول الكرماني صاحب "مصباح العقل"، وحياة الحياة، فلا علاج لنعر هذه النعرة المستبدة والأليمة إلا بقتل العدو، الكثير والمتناسل والمتعاظم القوة. وهذا العلاج سبقت محاولته. والحروب الأهلية العربية، الحقيقية والمتخيلة ومزاج الإثنتين، هي بعض مدونة هذا العلاج. وهو أخفق إخفاقاً مريراً وممعناً، وليس مما يصح إدخاله تحت باب السياسة، ولا الجهر به على الملأ.
فيبقى "علاجان" آخران. ويحاول صاحب السيرة الناصرية أول العلاجين، فيدرج "الأمة" في تاريخ شيعي، حسيني، كل يوم من أيامه "عاشوراءُ" ظلم واستدراج وإنكار وخيانة واغتيال، وكل أرض من أراضيه - من الكلم 101 إلى كمب ديفيد، فواشنطن البعيدة المزار عن نيويورك وأممها المتحدة، فالمتوسط والأطلسي إلى كوسوفو، و"عقدتها التاريخية" البعيدة من إدراك "العقل" الأميركي المكاني، على قول السيد ريجيس دوبريه، وريث "العقل" السياسي الديغولي - "كربلاء" شِرك ومكيدة وإيقاع وتسويف. وإذا كان هذا "العلاج" يقر المعالج على اكتئابه وميلانخولياه، أو على خسارته موضوع رغبته ومناط أناه، على زعم فرويدي منازع، فهو، من وجه آخر، يحفظ على نفس المكتئب، وهو "الأمة" الناصرية والهيكلية، وحدة نفسها ولو خاوية الوفاض من كل مادة تاريخية.
و"الامة" الواحدة، وإرادتها وذاكرتها استطراداً، على حسب ما تُروى ويقص قصصها، هي هذا الخواء المجرد من كل مادة حية، ومن كل كثرة وجواز واحتمال. فهي، على خوائها، تكرار الهوية والإرادة والذاكرة: فتكرر هوية تثبت هويتها، وإرادة تريد إرادتها، وذاكرة تتذكر ذاكرتها. وهي هذا إلى أبد الآبدين، أي إلى نهاية "الحرب من نوع جديد" التي يهوِّل بها السيد هيكل على السامعين والقراء" وهي صاغ تعريفها ومفهومها بعض خبراء مكافحة الإرهاب في عواصم الدول الصناعية الكبيرة، وبعض مصادر هذا الإرهاب من ثمار التاريخ الذي نصب السيد سليم الحص السيد هيكل أميناً عليه، وعلى سجلاته و"معلوماته".
أما "العلاج" الثاني ففلسطيني، وهو أخو الذاكرة العتيدة. ويوحي أصحابه وأطباؤه بالطلب إلى العدو، شرطاً لصلحه والقبول به، الإقرار الصريح بجريمته في حق الشعب الفلسطيني، والإعتراف بأن كل ما جرى منذ نصف القرن، وهو نسيج حياة العدو، إنما هو بناءٌ على جريمة صريحة وتامة. ولا يرضى أصحاب العلاج، وأطباؤه بأقل من الإقرار والإعتراف هذين ابتداءً لعلاقة، من أي ضرب، بيت الشعبين. فينبغي أن يخرج الشعب الفلسطيني من "العلاج" كتلة صفح ومغفرة، ويخرج الشعب الإسرائىلي كتلة ندامة وتكفير. ولا يشك الأطباء في أن أمماً، هذا شأنها من بساطة الجوهر والتركيب، قادرة على مباشرة عمل يومها وليلتها وهي فرحة جذلة. والأغلب على الظن أن الأطباء هؤلاء يغفلون بعض الغفلة عن انصرافهم إلى علاج الثأر القبلي من الماضي بطبابة فيينا وحَضَرها، وطبابة النفس القبلية من تحجرها على وقت من أوقاتها. فينكصون، على ما يرطن أهل التحليل، بمريضيهم وشعبيهم إلى وقت الوداد، على خلاف عاشوراء، وإلى أرض الأمان، على الضد من كربلاء.
وفي انتظار بلوغ النكوص غايته، يشبه عالم أصحاب "العلاج" الثاني العالم الهيكلي شبه التوأم توأمه: فهو عالم أميركي يقتل الذاكرة والإرادة بمفعول رجعي، ويجتاح الأنفس ب"أشباحه"، على مثال طائرته الحربية، ويشن عليها حرباً إستشراقية ماحقة تنبت أنقاضها سيراً مثل السير التي تروى علينا، وتزعم تربية المستقبل وصنعه على المثال الناصري والفلسطيني. وفي الأثناء، يعلن "مركز دراسات الوحدة العربية" عن إنشاء جائزة عبدالناصر في "ذكرى ثورة 23 يوليو"، ويغلق باب الترشيح في 15 يناير كانون الثاني "ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر"، وتجتمع لجنة الجائزة في 2 فبراير شباط، "ذكرى يوم الوحدة" أو يعلن عن اجتماعها فيه - على شاكلة أداء "عجائز نيسابور"، من أمهات أبي المعالي الجويني الأشعري، الشعائر.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.