أثار مقالا ضياء رشوان وأبو العلا ماضي حول العلاقة بين الاخوان المسلمين والثورة المصرية في صفحة "أفكار" اخيراً العديد من القضايا. وارتبط ظهور مقالي رشوان وماضي بحديث متزايد في الأوساط الناصرية والاسلامية في مصر عن الاستعداد لتناسي الماضي وابداء التسامح. ولا شك ان هذا الموضوع يستحق بعض التوقف والتأمل بعمق، حيث ان له جانبين: احدهما تاريخي والآخر سياسي. فالعلاقة بين الاسلاميين والناصريين لها بعد تاريخي حي في ذاكرة شخصيات ما زالت على قيد الحياة من الطرفين. فهناك الجيل الذي عاش عصر المواجهة المباشرة بين الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وجماعة الاخوان المسلمين والذي شهد الصدامين الرئيسين بين الطرفين عامي 1954 و1965. وهناك ايضا الجيل الذي عاش المواجهة - الأخف وطأة عنفاً نسبياً - بين التنظيمات الناصرية والاسلامية في الجامعات المصرية خلال حقبة السبعينات. وكان لهذه المواجهات في الماضي اسباب ذاتية واخرى موضوعية، وتندرج ضمن الاخيرة مسائل اتصلت بخلافات فكرية واخرى اتصلت بالتعامل مع قضايا خارجية اقليمية ودولية واخرى داخلية. ولا نرى ان هناك حاجة هنا للخوض في اصول هذه الخلافات او تفاصيل هذه المواجهات لأنها معروفة لكل متابع معني بتطورات التاريخ المعاصر للفكر والسياسة في مصر والوطن العربي. الا ان ما يعنينا هنا هو دلالات ما هو مختزن في الذاكرة التارخية للطرفين الناصري والاسلامي بشأن هذا الماضي بالنسبة الى الوضع الراهن للطرفين في المعادلة السياسية على الصعيدين الوطني والاقليمي، خصوصاً ان الطرفين تقاربا في بلدان عربية اخرى غير مصر خلال السنوات الماضية. وكان الحديث عن الاتصالات وفرص التنسيق بين الناصريين والاسلاميين مطروحاً قبل الانتخابات النيابية في مصر عام 1995 الا انها على ما يبدو لم تفض الى أي مردود ايجابي يتجسد عملياً في شكل تعاون او تنسيق خلال الانتخابات. بل ان العكس الى حدّ ما هو الذي حدث في بعض الدوائر الانتخابية حينذاك عبر الحدة في الخطاب السياسي من مرشحي كل طرف تجاه الطرف الأخير ولغة المواجهة السياسية التي لم تخل من استرجاع لأحداث مريرة من الماضي وذكريات تثير الكثير من الحساسية لدى كل طرف منهما، كل لأسبابه الخاصة. وكان هذا الدليل مثالاً على ان التاريخ لا يموت وان اعتباراته ما زالت تتحكم الى حد كبير في حسابات العمل السياسي. وفي المقابل، الثابت ان الظروف المحلية والاقليمية والدولية تغيرت الآن عما كانت عليه وقت انتخابات 1995 النيابية، على الأقل في ما يخص التيارين الناصري والاسلامي، مما قد يفسر لنا ان الحديث عن الحوار والاتصالات والتعاون والتنسيق من الطرفين الآن، خصوصاً في ضوء تواصل واستمرارية هذا الحديث، هو اكثر جدية مما كان عليه في السابق، كما قد تكون له انعكاسات مهمة، ليس فقط على الساحة المصرية، وانما ايضا ربما على مجمل مساحة الوطن العربي والعالم الاسلامي. ونبدأ بالقضايا الخارجية، فلا جدال في ان مواقف الطرفين الناصري والاسلامي تقاربت الى حد التطابق احياناً ازاء تطورات عملية التسوية على الجبهة الفلسطينية - الاسرائيلية نتيجة طبيعة مسار هذه التطورات منذ مؤتمر مدريد، ولكن بشكل اكثر كثافة منذ اتفاقية أوسلو الاولى ثم الثانية وانتهاء باتفاق واشنطن الاخير. وعلى الرغم من ان البعض قد يشكك في اهمية مسألة كهذه وتأثيرها على احتمالات التقارب بين الناصريين والاسلاميين، الا اننا نذكر هنا ان قضية فلسطين وما يتصل بها من قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي ومسألة التطبيع بين الدول العربية واسرائيل والخيار الشرق أوسطي وغيرها تمثل قضايا مركزية في فكر وممارسات التيارات السياسية في مصر، خصوصاً تلك التي تستمد جزءاً لا يستهان به من شرعيتها السياسية وقاعدتها الشعبية من خلال مواقفها ازاء هذه القضايا وسياسات تبنتها تجاهها في فترات سابقة من التاريخ المعاصر وفي الزمن الراهن. وهذا التشابه في المواقف ازاء تطورات قضايا الصراع العربي - الاسرائيلي بين الاسلاميين والناصريين يمثل اول ارضية لتعاون او تنسيق محتمل بينهما، في ظل ضغوط اطراف اقليمية ودولية داعمة لهذه التطورات، وكذلك مراجعة أطراف محلية لمواقفها ازاء هذه التطورات وصولاً الى قبولها او على الأقل التعايش والتأقلم معها. وتتصل بالقضايا الاقليمية السالفة الذكر مسألة العقوبات المفروضة على عدد من الدول العربية سواء من قبل مجلس الأمن او بواسطة دول غربية، في مقدمها الولاياتالمتحدة الاميركية، وكذلك الهجمات التي تعرضت لها دول عربية من التحالف الغربي او الولاياتالمتحدة. وأدت هذه المسألة وتطوراتها ايضا والادانة القاطعة لها من جانب الاسلاميين والناصريين - مع وجود تباينات هنا او هناك - الى تشابه آخر في المواقف بينهما وتخوف مشترك من تأثير ذلك على اعادة رسم خريطة المنطقة من جديد وتعديل توازنات القوى بما يخدم مصالح التحالف الغربي بشكل عام والهيمنة الاميركية بشكل اكثر خصوصية. وتنقلنا هذه المسألة الاخيرة الى الموقف تجاه الغرب والولاياتالمتحدة وتحديات العولمة والنظام العالمي الجديد بشكل عام. فإذا كان للناصريين رصيد تاريخي في المواجهة مع المخططات الغربية التي استهدفت تفتيت الوطن العربي والهيمنة على مقدراته - على الأقل في المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية - فان الاسلاميين ووجهوا طويلاً باتهامات بالتعاون او بالتواطؤ مع الغرب، سواء بعد الصدام بين جماعة الاخوان المسلمين والرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1954 وطوال الستينات والسبعينات، او خلال تعاون بعض جماعات اسلامية مع الولاياتالمتحدة عبر وساطة اطراف عربية او اسلامية او مباشرة خلال سنوات الاحتلال السوفياتي لأفغاسنتان وما بعدها. الا ان انتهاء الحرب الباردة وبدء الحديث عن اعتبار الاسلام العدو الرئيسي للنموذج الغربي ومصدر التهديد للحضارة الغربية ومساواته بالارهاب، وما ارتبط بذلك من عدم حاجة الغرب - خصوصاً الاميركيين - للحركات الاسلامية في المواجهة مع العدو الشيوعي المشترك، أدى الى ردود فعل من جانب الحركات الاسلامية اتسمت بالحذر تجاه الغرب وانقلبت لاحقاً - نتيجة تطور مواقف الغرب من تلك الحركات احيانا ونتيجة مواقف غربية تجاه العرب والمسلمين وكل ما هو غير غربي احياناً اخرى - الى مواقف عدائية تجاه الغرب، ما جعلها تقترب في بعض أبعاد هذه المواقف من مواقف الناصريين، مع استمرار اختلاف الطرفين حول تقدير وتحليل طبيعة العداء مع الغرب ومدى الاختلاف او الانسجام ما بين الأطراف المكونة للمعسكر الغربي، وأبعاد العلاقة بين الجانبين العربي الاسلامي والغربي. وفي القضايا الداخلية، نجد ان احدى القضايا التي يمكن ان يحدث حوار او حتى تقارب بشأنها هي المسألة الاقتصادية الاجتماعية. فقد حرص الناصريون منذ السبعينات على ابداء اعتراضهم على ما اعتبروه "تصفية" للمنجزات الاشتراكية للحقبة الناصرية على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، بدءاً بإدانة سياسة الانفتاح الاقتصادي كما طبقت منذ عام 1974 وانتهاء بالتصدي او على الأقل محاولة الحد من - سياسة الخصخصة في التسعينات والتركيز على الدعوة الى اجراءات تكفل تحقيق العدالة الاجتماعية والحد من الفوارق الطبقية ودور رئيسي للدولة في الاقتصاد. واذا كان الاسلاميون قد عرف عنهم طويلاً الدعوة لحرية النشاط الاقتصادي مع تطبيق مبادئ اسلامية خاصة بتحريم الربا وغير ذلك، فان السنوات الاخيرة شهدت ادراك بعض التيارات الاسلامية المتزايد بأن الحرية الاقتصادية وحدها قد تؤدي الى وقوع الاقتصاد والثروات في أيد أجنبية غير عربية او اسلامية، كما انها قد تؤدي الى افقار لبعض القطاعات الاجتماعية والى تفاوت طبقي يقود الى ممارسات تتسم بالترف والبذخ والسفه المناقض لتعاليم الدين لدى قطاع من طبقة شديدة الثراء من جهة والى حرمان ومعاناة شديدة لدى الطبقات الدنيا او حتى الوسطى. وكان من نتيجة ذلك دعوة بعض تلك التيارات الاسلامية الى اهمية دور الدولة في الاقتصاد لتنظيمه وضمان تحقيق العدالة، وأيضا رفضهم القبول "بنصائح" المؤسسات التمويلية الدولية، خصوصاً صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ويمهد ذلك التغيير ايضا - الى حد ما - لفرص حوار وربما تنسيق - إن لم يكن تطابقاً - بين التيارين الناصري والاسلامي. وهناك ملاحظتان نختتم بهما هذا المقال. الاولى ان المسائل التي ذكرناها كأمثلة على امكانات الحوار والتقارب بين التيارين الناصري والاسلامي لا تصب بالضرورة في خانة تقاربهما بهدف معارضة الحكومة في مصر. بل على العكس، قد يقوي تقاربهما حول هذه المسائل مواقف الحكومة المصرية تجاه المسائل نفسها او مسائل اخرى متصلة بها، فمواقف مصر الرسمية تقف بقوة في صف مواقف الأطراف العربية في مفاوضاتها مع اسرائيل، كما انها ترفض سياسات المحاور في المنطقة لحساب طرف خارجي او آخر، وكذلك تقف بوجه ان تتحول العولمة الى فرض نموذج واحد على بقية العالم، وقد لعبت دوراً مؤثراً وفعالاً لرفع العقوبات المفروضة على ليبيا وتخفيف المعاناة عن الشعب العراقي نتيجة العقوبات المفروضة عليه. واخيراً، تعي القيادة المصرية التوازن الشائك والحساس المطلوب تحقيقه بين التقدم والاصلاح الاقتصاديين من جهة والعدالة الاجتماعية والتخفيف عن كاهل الفئات الاجتماعية الدنيا التي تواجه أعباء الحياة بشكل متزايد خلال المرحلة الراهنة التي من المفترض انها مرحلة انتقالية. اما الملاحظة الثانية، فهي ان الحديث عن حوار او تعاون بين الاسلاميين والناصريين بشأن قضايا بعينها يضفي قدراً من الواقعية. حيث ان محاولة تجاهل تحفظات وتوترات تراكمت تاريخياً او الادعاء بنسيان او تجاوز مرارات عميقة في الأذهان والنفوس لا يفيد حتى على المستوى السياسي المرحلي، والأجدى هو البحث عن قضايا تكون المواقف بشأنها متقاربة. وهناك ارضية مشتركة موجودة او يمكن تطويرها ازاء هذه القضايا. ومن هنا يكون الحديث عن الحوار والتنسيق قابلاً للتحقق ليس فقط بين الاسلاميين والناصريين، بل بين العديد من التيارات الفكرية والسياسية على الساحتين المصرية والعربية. * كاتب مصري مقيم في جنيف.