لطفي الخولي تحرير حرب يونيو 1967 بعد 30 سنة اصدار: مركز الاهرام للترجمة والنشر، القاهرة 1997 مرت ذكرى الخامس من حزيران يونيو هذا العام دون اي اهتمام يذكر في الصحافة العربية، وكأن الجميع يريدون ان يتجاهلوا هذه الذكرى الأليمة او حتى ينسخوها من الذاكرة لو استطاعوا. وتذكرت القول المأثور: الهزيمة يتيمة، والنصر له ألف أب وأب. في حزيران من العام الماضي، وبمناسبة الذكرى الثلاثين للهزيمة المفجعة صدرت في مصر على نحو خاص، وعلى مدى شهرين او اكثر، عدة دراسات جادة في تحليل اسباب الهزيمة ونتائجها. وساهم في هذه الدراسات اجيال عاصرت الهزيمة، وكانت في موقع ما من مواقع المسؤولية عند حدوثها، واجيال متأخرة حاولت ان تحلل الاسباب والنتائج باسلوب موضوعي بعيداً عن الانفعالات العاطفية او النفسية. واهمية الكتاب الذي بين ايدينا ان المحرر لطفي الخولي حاول ان يجمع اهم هذه الدراسات التي كتبت بأقلام مفكرين وباحثين مصريين وعرب واسرائيلي واحد هو ديفيد كيمحي. هذا عدا المحرر نفسه الذي وضع مقدمة الكتاب. نحن اذن أمام كتاب هو حصيلة جهد جماعي، عبر كل من اسهم فيه عن قناعاته الذاتية وقدم ما رآه تحليلاً لحرب 1967 وملابساتها وتداعياتها مع الاحداث والزمن في مصر والعالم العربي واسرائيل. واذا كان من الصعب الاحاطة بوجهات النظر المختلفة، على اهميتها، فان ما يجدي في هذه المراجعة هو رصد الملامح العامة لهذه الآراء والتحليلات. الملمح الأول: هو قوة وعمق تأثير الحدث الهزيمة، على الرغم من مرور اكثر من ثلاثين عاماً على الحدث، في التكوين النفسي والفكري للكتاب العرب. فالحضور الطاغي لحرب 1967 بهزيمتها المهولة ما زال هو الاقوى بتداعياته وآثاره المختلفة. انها ما تزال الحادث الجلل المقيم في الوجدان العربي وتلافيف المجتمع العربي والاسرائيلي على امتداد مجرى احداث الصراع. ولعل ذلك يرجع الى ان حرب 1967 قد فجّرت في الذات العربية، مجتمعاً ودولة، علامات استفهام لا يزال الكثير منها قائماً متحدياً الزمن والكينونة العربية باتجاهاتها المختلفة، يبحث عن اجابات مفقودة، او لنقل اجابات خلاقة تتجاوز التقليدية السارية، وتكون منطقية وعقلانية ومقنعة. الشجن العاطفي الكسير حول هزيمة الذات والوطن والقومية الثورية هو القاسم المشترك بين معظم هذه الدراسات. هذا الشجن الذي بات له نوع من الوجود العضوي القلق على ضفتي حرب 67 هو الذي يحدّ، كما يقول المحرر، من الموضوعية الباردة عندما يتناول الكاتب، عربياً كان او اسرائيلياً، ابعاد الحدث ونتائجه. وهو الذي يفسر هذه الفجوة الواسعة والعميقة القائمة اليوم بين طرفي حرب 67 في مرحلة التسوية السياسية للصراع. فالطرف العربي لا يتصور تسوية بدون ازالة جميع آثار الهزيمة الجارحة حتى العمق، في حين ان الطرف الاسرائيلي لا يتصور التسوية بدون ان يتقاضى ثمناً ما لانتصاره، وهو ثمن يختلف الاسرائيليون في تحديد ماهيته وحجمه حتى بعد مدريد 1991. ويتجسد الملمح الثاني المشترك لابحاث الكتاب في تحميل مسؤولية الهزيمة للنظم العربية القائمة وقت الحرب، او بالأصح "النظام العربي" بمجموعه، وذلك بسبب غفلة تلك الانظمة وتهاونها وصراعاتها الداخلية. وعند تحديد درجات المسؤولية في هذا الاطار هناك ايضاً اجماع بين الباحثين على ان الدرجة الاولى من المسؤولية تقع على عاتق النظم "التقدمية" و"القومية الثورية" والتي كان خطابها السياسي - على الرغم من الخلافات بينها - يركز على اولوية القضية الفلسطينية والمواجهة الحاسمة مع اسرائيل، ويرفع شعارات التحرير الكامل لفلسطين ودحر لمشروع الصهيوني. والملاحظ ان مصر الناصرية احتلت مرتبة الصدارة في المسؤولية عن حرب 1967 في تلك الكتابات، وذلك بحكم ما كانت تتمتع به من وزن قيادي مؤثر في العالم العربي ككل، وفي معسكر النظم الوطنية التقدمية بشكل خاص، وبحكم التضليل الذي مارسته اجهزة اعلامها حول "اكبر قوة ضاربة في الشرق الاوسط". ولكن بعض الكتّاب آثر ان يعتبر الهزيمة - بحق - هزيمة قومية ومسؤولية قومية. والملمح الثالث المشترك بين دراسات الكتاب انها توصلت الى ان الحرب كانت، تاريخياً، الخطوة الاولى في مشوار التسوية السياسية للصراع العربي - الاسرائيلي. فهي قد اسفرت عن القرار التاريخي الشهير 242 الذي قبلته جميع الاطراف، وبالتالي بدء مفاوضات غير مباشرة بين الاطراف، من خلال مبعوث الاممالمتحدة يارنغ لتنفيذ القرار المذكور الصادر عن مجلس الامن عام 1967. يقول الدكتور عبدالمنعم سعيد، استاذ العلوم السياسية، وابن الطبقة المتوسطة التي هزتها الهزيمة بعنف: "كانت الهزيمة هي المطرقة التي نزلت على رأس السياسة الخارجية المصرية وجعلتها تتحول من المثالية الى الواقعية.. الى تحقيق اهداف محدودة تتواءم مع القدرات المصرية.. وفي الفترة الفاصلة ما بين حرب 1967 وحرب 1973 وضعت الاسس لسياسة خارجية مصرية مختلفة جذرياً عما كان عليه الحال من قبل.. فقد اصبح مقبولاً ان تسير مصر على طريق التسوية". ويقول الدكتور احمد سامح الخالدي في بحثه الذي جاء تحت عنوان "تأملات في عِبر حزيران": "لا شك ان حرب 1967 شكلت المقدمة ولربما المقدمة الضرورية من منظور تاريخي مجرد لانطلاق عملية السلام في المنطقة… ويكفي الاقرار بموضوعية انه لولا حرب 1967 لما تركزت الجهود الدولية على ايجاد تسوية للنزاع، ولما كان القرار 242 الذي لا يزال يشكل الاطار الرئيسي الموجه لعملية السلام الجارية ومرجعيتها المركزية، بعد مرور ثلاثة عقود على دخوله القاموس السياسي الدولي والمحلي". ومع هذا فان المواقف العربية وكذلك الموقف الاسرائيلي، لم تتغير جوهرياً بعد حرب 1967. لقد احدثت الصدمة الضرورية للتغيير. ولكن التغيير الحقيقي لم يحدث عملياً الا بعد حرب 1973. ويفسر ديفيد كيمحي عدم حدوث التغيير من الجانب الاسرائيلي بقوله: ".. لم يشعر الجانب الاسرائيلي ايضاً بأن الامر يقتضي القيام بأي مبادرة خاصة، حيث اصبحت لديه الآن الاراضي التي استولى عليها ويمكنه استخدامها كورقة مساومة…". ويقدم لنا كيمحي معلومة جديدة تماماً في تاريخ حرب 1967 حين يقول: "… وتجاهلت غولدا مائير عمليات جس النبض التي قام بها قياديون فلسطينيون لم يحدد من هم كانوا يرغبون في ابرام سلام مع اسرائيل في صفقة تمنحهم كياناً مستقلاً". هناك ملامح مشتركة اخرى عديدة تثير الانتباه والجدل على ضوء ثلاثين عاماً من الحدث بتفاعلاته وتطوراته. على سبيل المثال تلك النقطة المهمة التي تطرح حول حقيقة الاسباب السياسية والعسكرية والاجتماعية التي تكمن وراء الأداء المتدني العربي، وخاصة المصري، قبل الحرب وخلالها. ولكن هل يمكن الحديث عن اداء مقدمة للقيادة العسكرية التي كان يجسدها المشير عامر واركان حربه، منفصلاً عن أداء آخر للقيادة السياسية التي كان على رأسها جمال عبدالناصر؟ يلاحظ المحرر وجود علاقة جدلية ومعقدة بين حرب 1967 وحرب 1973 في الحرب المتصلة على مدى ست سنوات والتي شكلت الوعاء الزمني لاختبار ارادة الحرب وارادة السلام لطرفي الصراع. ويقول الخولي: "وأزعم ان هذه العلاقة هي التي تحكم ولا تزال مسار الصراع العربي - الاسرائيلي خاصة في المرحلة الراهنة لتحوله الصعب والمتعثر…". ولعل المحرر يقصد بالعلاقة الجدلية والمعقدة ان قراءة احداث الصراع، او بالاحرى اعادة قراءة الاحداث في اطار تفاعل اطراف الصراع، تصل بنا الى نتيجة ان حرب 1967 ظلت ممتدة الى حرب 1973. او بتعبير آخر ان كلا الحربين كانت في الحقيقة مجرد موقعة في حرب واحدة تفصل بينهما ست سنوات فحسب. لعل اهمية تلك "الحرب الواحدة" تكمن في تأكد كل طرف من اطراف الصراع من عدم قدرته، حتى مع دعم حلفائه، على انزال هزيمة ساحقة بالآخر يحسم بها الصراع لصالحه تماماً. وبالتالي بدا ان لا مفر امام الطرفين من ان يُحدث تغييراً في استراتيجيته وتكتيك التعامل مع الآخر، والا انتهى الامر بوقوع حرب اخرى، اي بدمار شامل نتيجة للتطور المذهل في الاسلحة التقليدية وتراكم أسلحة الدمار الشامل في المنطقة. ويرى المحرر ان حرب يونيو فتحت الطريق نحو التعامل مع الصراع بالاسلوب السياسي، بدلاً من الاسلوب العسكري، ولكنها لم تفتح الطريق امام السلام. ويرجع المحرر ذلك الى منطقة جوهرية وهي ان حجم وقدرات اسرائيل دولة ومجتمعاً كانت اعجز من ان تستوعب مثل هذا النصر الاسطوري وتوظيفه لصالحها في الصراع. ومن هنا اكتفت، بزهو ذاتي، بأن تصبح قوة احتلال اكثر من ان تبني دولة طبيعية مقبولة اقليمياً ودولياً. وبذا اضحت الدولة الاستعمارية الوحيدة الباقية من التاريخ الاستعماري العالمي في اواخر القرن العشرين. أشرك المحرر في هذا الكتاب باحثين من فلسطين الخالدي ولبنان ناصيف بالاضافة الى الباحث الاسرائيلي المعروف ديفيد كيمحي. وهذه فكرة جيدة لاستكمال حلقة الدراسة والنقاش واعطائها ابعاداً أوسع. ولكن لا ادري لماذا استبعد، او لماذا لم يشرك كاتباً أو أكثر من سورية، وكاتباً او اكثر من الاردن، وكلا هذين البلدين اكتوى بنار تلك الحرب ونتائجها الوبيلة؟! ألا توجد وجهة نظر سورية ووجهة نظر اردنية حول تلك الهزيمة وأسبابها؟! أليست هزيمة حزيران هزيمة قومية - وهي حقاً كذلك - كما يقول المحرر؟ ثمة نقطة بالغة الاهمية لم يسلط عليها المحرر ما تستحق من اضواء. وهذه النقطة لم يتنبه اليها او يعالجها الا الباحث محمد السيد سعيد نائب مدير مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية وهي ان هزيمة حزيران، على هولها وعلى خطورة وجسامة الاخطاء التي ارتكبتها القيادات العربية السياسية والعسكرية في تلك الحرب، لم تُحدث اية تغييرات جذرية في الانظمة المسؤولة مباشرة عن الهزيمة. فالاصلاحات التي قام بها النظام الناصري كانت شكلية كما يقول د. سعيد، وهي لم تحدث اي تغيير جوهري. والانجاز المهم الوحيد لعبدالناصر في تلك الفترة هو استبعاد مراكز القوى من الجيش واعادة بناء الجيش المصري كجيش محترف. والتغييرات السياسية المهمة التي حدثت في مصر بعد ذلك حدثت في عهد السادات، وهي لم تأت نتيجة للهزيمة او استيعاب دروسها بل جاءت نتيجة لوفاة عبدالناصر وتولي السادات السلطة. وتبقى هذه التغييرات آتية من داخل النظام نفسه، فالسادات هو جزء من النظام الناصري. ويعزو الكاتب عدم حدوث متغيرات بنيوية في دول الطوق الى غياب الضغوط الداخلية والمؤثرة. وتبقى هذه الظاهرة في رأيه من اكثر الامور مدعاة للدهشة في التاريخ السياسي العربي المعاصر!